أقلام

غيمة الشتاء الحزينة

علي حسن المسلمي

قبل أيام، استيقظت “البطالية ” على نبأ مُفجع، يُخبر برحيل الملا حسن عبدالله الجبران إلى جوار ربه دون سابق إنذار، أو تمهيد، وإشعار.

فـ الملا حسن، في عقده الخامس، كان وحسب ما يظهر للعيان، يتمتع بصحة جيدة، ونسق حياتي صحي، ويكفيه من الصحة، روحه المتسامحة، وقلبه الطيب الذي لم يعرف الحقد والضغينة، يضاف عليهما نفسه المرحة، واستقراره الأسري، وعلاقاته الرائعة مع الجميع.

لكنها مشيئة الله وإرادته!

لعلّنا بحاجة لمراجعة حساباتنا، وذنوبنا، فلعلَّنا أقدمنا على ذنوبٍ، سلبت منا نعمة كبيرة اسمها (الملا حسن)!

أو لعلّ الملا حسن تواضع لله؛ للحدِّ الذي رفعه إليه، أو لعلَّ الله أحبَّنا نظير عملٍ ما؛ فابتلانا بفقده ورحيله.

أنا لا أدعّي متانة وصالي بالمرحوم، ولا أدعّي أنِّي سأسلّط الضوء على ما هو جديد في شخصية هذا المؤمن؛ لكنِّي أودُّ أن أواسي نفسي، ومُحبِّيه بالكتابة عن شذراتٍ من بعض يسير من سيرته، أختمها بأبياتٍ أُرثيه بها، وأنا على يقين تام، أنَّ ما يعتمر في قلوب الكثير من أقاربه، وأصدقائه، ومعارفه، أكثر بكثير من هذه الملامح البسيطة، وأن هناك ثمَّة فُرصة قد تكون قريبة، لكلّ شخص للبوح بها.

الملا النابغة
في أيام الاختبارات بالصف الثاني الثانوي “علمي”، قبل أكثر من عشرين سنة، أعيتنا مسألة رياضية لمدة أسبوع أنا ومجموعة من زملائي الطلبة وكذلك المعلم!

لا أتذكر حاليًا ما الذي جعلني أذهب لمنزل الملا في فريق ” العريصة “، وقد تكون أول مرة في حياتي أتحدث إليه فيها طلبت منه أن يشرح لي المسألة، وعلى أضواء الصكة، حيث كان منزلهم لا تسمح ظروفه بالاستضافة، بدون تحرُج، أخذ الملا يشرح لي المسألة في مدة لا تقل عن ثلث ساعة شرحًا يعكس نبوغه وحدة ذكاءه؛ وبالمناسبة حينها لم يكن(ملا)بعد.

قلبه يطوي المسافات
لم تكن بُعدالمسافة يومًا عائقًا في وجه الملا رحمه الله في تأدية حق الواجب الاجتماعي، أو حق الصداقة والمحبة؛ فـ غالبًا تراهُ وسط الأسبوع في البلد؛ لتأدية واجب اجتماعي، رُغم أنه متأهل في الدمام، ويعمل بها.

حتى أن البعض؛ لعظم ذلك، لم يكنّ يعتقد، أن الملا يسكن الدمام أصلاً، ناهيكَ عن قطعه للمسافاتِ من أجل زيارة أحبائه، وأصدقائه، واقتطاع أيام إجازته لذلك، فقط قبل أسبوع من رحيله، علمتُ منه شخصيًا، أنه كان في زيارة صديق لنا، في سلطنة عمان!

القائد ” المتواضع ”
الملا، يُعتبر (قُطب الرحى) في عدد من مجالس إحياء ذكر أهل البيت خارج الأحساء، جهدًا ، وبذلًا، وإقامة، وتنظيمًا، دون كللٍ أو مللٍ، مُرحبًا بمساعدة الجميع، دون مركزية، أو أنانية، أو انتقائية، مُعطيًا الفرصة للجميع؛ للمشاركة والعطاء وطوال سنوات، ومن نافل القول أنه يحب المشاورة، ولا يرى حتميَّة صوابية رأيه، منفتحًا، ومُتقبلًا، ومصغيًا رائعًا.

الأسرة تأسِرهُ
الأسرة، والجوالأسري، حازت على القدر الكبير في حياة المرحوم؛ فهو قد نشأ في عائلة عصامية، نشأوا وتربوا على الفضيلة، وحبّ العلم، والطموح، وحينما أراد إكمال نصف دينه، تزوج بابنة المرحوم العم حجي المسلمي ( ابنة عمتي )، ولما أن رزقهما الله أولا بالبنات، لم يكن الملا أقل سعادة بولادة الأخرى بعد الأخرى، ولا أبالغ إذا قلت، أن سعادته ب محمد لم تكن مختلفة كثيرًا عن أخته التي سبقته؛ فهو يحب أسرته كثيرًا، ويعيش معهم أجواء الأسرة الجميلة، دون القيود التي قد يظنُّها البعض ” للخطباء والمتدينين “.

يسافر معهم، ويتنزه معهم، ويتسوق معهم، ويتعامل معهم كالأصدقاء، حتى أنَّه قال لي شخصيًا؛ أن سبب اختيار موقع منزله الجديد( بيت العمر)كانَّ بمشورة بناتهِ، ثم والدتهم.

ومثل هذا القرار، عندما يُعطي الأب لأفراد أسرته النصيب الأوفى للمشاركة، والمشورة؛ فاعلم أن هذا الأب متيم بأسرته؛ علمًا أن موقع منزله الجديد، يُعتبر نسبيًا بعيد عن مواقع النشاط الديني، التي يتردد عليها رحمه الله.

كرم لا تراجع فيه
من الأمور التي كانت تثير الإعجاب في شخصية المرحوم، هو اغتنامه للفرص التي قد تعكس شخصيته الكريمة في العطاء؛ ففي أحد مجالس الذكر في الخُبر، سأل الملا المجموعة التي كانت حاضرة في ذلك المجلس عن ترتيب مجلس القراءة الأسبوع القادم؛ فقالوا له : نريده أن يكون في منزلك الجديد حتى نبارك لك!

فلم يتوانى ولم يحرّ جوابًا : فقال لهم على الرحبِّ والسعة، وقام فورًا بترتيب الدعوات لهؤلاء الضيوف الأعزاء.

وأنا شخصيًا، كنتُ أتحدث معه ذات مرة عن رغبتي لزيارة صديقنا في عُمان، إلا أن عطل سيارتي أجّل ذهابي إليه، فقال لي بكل حزم : “هذا غير مُبرَّر يا أبو عادل، أيّ وقت تعزم تعال خذ سيارتي وأنت في الطريق عطني خبر أسوي لك التفويض”.

كان بالإمكان، خيار حياة أخرى
الملا حسن ؛كان نابغة، متفوقًا في دراسته، خريجًا جامعيًا بشهادة تُمكنُّه في ذلك الوقت، من الحصول على وظائف في شركات كبرى، قد تُسهم في حصوله على مرتب عال، ووظيفة مرموقة.

لكنِّي؛ وحسب تحليلي الشخصي، رأيتهُ اتجه نحو الوظيفة التي تؤمِّن له، ولأسرته حياة كريمة؛ لكنَّها لا تسلبّ كل جهده ووقته، حتى يُكمل رسالته في الحياة، والتي كان فحواها، القُرب من المولى سبحانه عبر بوابة أهل البيت سلام الله عليهم ومحبة الناس والمجتمع؛ فرحمك الله يا أبا محمد رحمةً واسعة.

هل سهمُ موتِكَ يا حبيبُ يطيشُ
أم أنَّ جسمَكَ كفنتهُ نعوشُ

دفنوهُ في قلبِ الرمالِ ولم يروا
أيَ القلوبِ بعمقِها سيعيشُ

يبقى كصوتِ الحبِ في نغماتِهِ
ولهُ بأرضِ الطيباتِ عروشُ

أو قل كلونِ الوردِ كانَ حضورُهُ
أنّى يكونُ فخيرُهُ المفروشُ

يا لهفَ روحيَ كم فُجِعنا بفقدِهِ
والحزنُ فوقَ ترابِهِ منقوشُ

إنَّا فقدنا ناذرا أيامَهُ
ولهُ مناصٌ قد حوتهُ رموشُ

ذكرُ النبيِّ وآلِهِ كانَ الهوى
إنَّ الهوى في غيرِهم مغشوشُ

يا أيها المرسالُ بينَ قلوبِهِم
إنَّ المناحةَ بالفؤادِ تجيشُ

أخبرْ محمدَ بعدَ زينبَ أنهمْ
فقدوا عظيماً في القلوبِ يعيشُ

ماذا يحلُ بناحبٍ للمصطفى
أيُرى بيومِ الراوياتِ عطيشُ

ارقدْ بجسمِك في الفلاةِ وإنما
حملَ البقاءَ لروحِ طهرِكَ ريشُ

أجمعتْ في ذكراكَ يا حسنَ التُقى
وجهٌ بهيٌ في اللقاءِ بشوشُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى