أقلام

بين فسائلٌ ووجه هاجر

إبراهيم بوخمسين

القصيدة هي أمي التي تشبهني وتشاركني عطري وتصبغ شعرها بلون حِنائي، هي الأنثى التي تضيء مفرق عمري، كما يضيء الزعفران مفرق رؤوس الأمهات.

بهذه الكلمات الآسرة والأخاذة التي تنم عن الذوبان في القصيد، نُصدِّرُ هذه الإضاءة عن شاعرة تخطت حدود مكانها بل وبلدها. هي أديبة وشاعرة كتبت الرواية والشعر وأجادت في كلا الحقلين، وأخالك قد عرفتها من خلال عنوانَيْ ديوانيها “فسائل” و “وجه هاجر “. إنها الشاعرة تهاني حسن الصبيح.
لا يكاد يستعصي عليها قول الشعر سواءً العمودي منه أو شعر التفعيلة. لها بديهة حاضرة إذا ما داهمتها المناسبات. وأنا هنا أذكر مناسبتين كانت فيهما حاضرة الذهن وبعيدة الخيال حيث ارتجلت فأجادت وأفادت. المناسبة الأولى كانت قد وجهت لها دعوة لمرافقة وفد جائزة الشيخ باقر بوخمسين طيب الله ثراه في وقتٍ ضيقٍ جدًا لزيارة أمير الأحساء صاحب السمو الملكي الأمير سعود، تقول ونحن داخلون على سموه صُغتُ هذه الأبيات وحين لاحت فرصة للحديث خاطبتُ سموه بها:
يا ســيْـفَ سلـمانٍ ودِرْعَ مـحـمـــدٍ
تــاريــخـُــنا مـجـــدٌ إلــيْــهِ نـــعــودُ

تــمــرٌ هيَ الأحساءُ تسكنُ نخْـلَـها
وتــهُــزُّ جِـــذعًا للــــوَفَــا وتــجــودُ

ورِجالُها ( وطنٌ ) وأنتَ حدودُهـمْ
ما بينَ ( بِشْـتِكَ) و(العِقالِ) جـنودُ

من نـخْـلــنا الـهجريّ ألـفُ تحــيّةٍ
ســيــظـلُّ يسْمَعـُها الأَميرُ (سُـعـُـودُ)

فلم يتمالك سموه إلا أن صفّق لهذه الأبيات.

المناسبة الأخرى هي مناسبة حفل كتابي الثاني، الذي يقيمه رضاء بن العلامة الشيخ حسن بوخمسين لأسرته، ويكفيك جمال العبارات والجمل التي استخدمتها للتقديم فضلًا عن اختيارها لأبياتها، وكما يقول المثل لكل مقام قال:

أهنئ نفسي أولًا أنني تشرفت بالحضور إلى هذا المحفل الثقافي، الذي ينم عن وعي وفكر وإبداع، أسرة جذَّرتْ في الأحساء مجموعة من القيم التي نفخر بها جميعًا، ولرضاء بو خمسين الرجل الذي أحسبه سادنًا يملك مفاتيح كعبة المعاني ويحرسها مستقبلًا لكلّ من تهيأ للإحرام في اللغة والطواف حول جمالها أقول:

فاجمع ركابك كي تلبي حرةً
تدعو بعـزمك فـارسًا وخـيولا

نعم العقالُ إذا استدارَ بهامـةٍ
شَعّتْ على طُرُق السُّراةِ دليلا

السيرة:
شاعرة بمثل هذه القامة لم تأتِ صدفة، بل كانت نبتة طيبة لشجرةٍ مثمرةٍ ” وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ” كانت شاعرتنا الكبيرة تهاني تلك النبتة التي خرجت بإذن ربها من تلك الشجرة الطيبة التي كان لها إهداء ديوان وجه هاجر: ” إلى روح أمي في أسمائها الثلاثة: سويداء، فاطمة، سعاد. إلى قلبها الذي سكن صدْر الأرض وروحِها التي أنعشت رئة التراب”.

نعم هي النذر التي نذرته أمها، ولكي نتعرف على شيء من سيرتها فلا بد أن يبحر قلمنا في يَمِ شعرها. ويا له من اقتباس جميل وفقت له الشاعرة من هذه الآيات: ” إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”. فلها من ديوانها فسائل هذه القصيدة الجميلة “سيرتي الذاتية” 
من أين تبدأ سيرتي الذاتيةُ؟
من صرخةِ الميلاد تـُعلنُ دهشتي!!
أم وشوشاتُ العطرِ للأزهار
من زنبقٍ
أو نرْجـِسٍ
أو ورْدةٍ جوريّة

نعم هذه هي النبتة المثمرة. ومحل الشاهد هنا عندما تقول:
إني أنا النَّذرُ الذي
نذرتهُ أمي للإله محرَّرًا
لمَّا تنسك قلبُها
وعلى بِساطِ الفجرِ صلَّتْ
حيثُ كان وضوؤها
فيضاً بهِ القُدْسية 
وضعتْ جنينًا
بعده اكـتـشَـفـتْ بمحْضِ تبصُّرٍ
” أنثى” 
تُـمَـثـِّلُ دورها في العطِرِ روحًا
صورة شعرية رائعة وجميلة لقوله تعالى: “فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ”.

ولنا في الإفادة زيادة في التعريف بها من بين سطور أبياتها، كل الطهر هنا الذي يجب أن يقدس ويوفى له حقه. وفي قصيدة ” اقصص لنا الرؤيا ” مخاطبة صاحبة السمو الملكي الأمير خالد الفيصل:

هي مريمٌ خرجت تضمُ ولـيـدها
وعلى الــقـماطِ تــرتلُ الإنـجـيلا

من تربةِ الأحساءِ روحُ فـسـيـلةٍ
علِقتْ بروضك تستشفُ وصولا

جاءتكَ ساريةً بـغــير ســفـيـنها
فأعد لها – يا سـيدي – الأسطولا!!

ما أجمله من بيت في عمق معناه وما احتواه من مقابلة… بين “سارية ” التي تدل على القلة والوحدة، و”الأسطولا” التي تدل على الكثرة.

ما قــيدتـها جاذبــية أرضـها
عرجــتْ بحـمْـلٍ لا يــزالُ ثقيلا

إن روحَ الشاعرة انعَـتـقتْ، فلم يعد قانون الجاذبية يشدها إلى أرضها بل راحت تحلق في أراضٍ أخرى حاملة أكثر من طاقتها.
والقصيدة جميلة جدًا ضمت مجازات ورموز كثيرة عبرت فيها عن معاناة المعلمات المغتربات.

أما في “وجه هاجر” فلنا وقفة أخرى مع هذه السيرة العطرة حيث الأم الطاهرة ونذرها المبارك والنبت الطيب ومكان المولد وحيث الميثاق ” الحبل” الذي يمدها بالإكسير لعمتنا النخلة، وهنا صور رائعة وخميلة سطرتها مخـيلة شاعـرتنا الرقيقة:
هـناك في الخـبـرِ الـغــراء والــدتي

لاحَ المخاضُ بها من غـير مـيعادِ
كـغـــيــمـةٍ وجـهــتْ لله وِجْــهــتــها
والطلقُ يعصرها ماءً على الوادي 
وهي التي نذرتْ عمري لــنخـلـتِــنا
وأنــبـتـتها معي في يـوم مــيلادي
لم ينقطع حبليَ الـسُّري – ظـل بها
يــمــد أوردتي ” بالــمـاءِ والـــزادِ 

إن انعتاق شاعرتنا من قفصها المادي لم يجعلها تنعـتق من المكان فقط فها هي تحصد الألقاب، فتارةً “خنساء هجر” وتارةً أخرى “خنساء المملكة”، والذي هو أحب الألقاب إلى قلبها، ففي مقابلة معها سُئلت هذا السؤال:

ما هو سر لقب «خنساء المملكة» الذي أطلق على الشاعرة تهاني؟ ومَن أطلقه؟ وما المناسبة؟

هذا اللقب «وطنيٌ» حتى النخاع، وحين توّجني الجمهور به كنت في بداياتي، وللمرة الأولى أقف على صخرة سوق عكاظ في مدينة الطائف لأواجه أدب العالم العربي في هيئة جمهور، بقصيدتي:
دمعٌ على خدّيكِ أبيـضُ ذارفُ
وعلى ثراكِ الحُبُّ ظلٌ وارفُ

وكأنَّها لــيلَى مـشــتْ بعـباءتي
وهناكَ قـيْسٌ عـندَ بابِـكِ واقفُ

حينها صفّقوا بحرارة وقالوا «خنساء المملكة»، وصرتُ أتباهى بهذا اللقب في أي محفل عربي أعزز فيه انتمائي لبلدي واعتزازي به.
هذا غيض من فيض من سيرتها العطرة من خلال ديوانيها الرائعين، ولو أردنا الإطالة لخرجنا عن غرضنا.

المجاز:
ولنا في بحر المجاز رحلة، ولكن لن نغوص في أعماقه بل نقف على شواطئه. ومهما طغى عليها المجاز فلن يخفيها، فصورتها الحقيقية هو ما يخرج من شعر وقصيد:
ففي وجه هاجر: في قصيدة “مقدمة انفجار مؤقت”..
صور استعارية ومقابلة ظريفة لطيفة فهنا ” حرم ” وهناك ” قنوت “…وهنا ” متّى ” وهناك “حوت”…وهنا ” شعر وسحر” وهناك ” هاروت “:
الشعــر في حــرم الكـلامِ قــنـوتُ
فأنا ابنُ متـّى والقـصـيدةُ حوتُ 
صوتي

الحقيقةُ ملْء حنجرتي ولا
يـطغى عليّ مع المجاز خفوتُ

فالـشعـرُ سحــرٌ واللــغــاتُ دلائلٌ
نزلــتْ وعلــمّــنا بـها هـاروت.

قولهم شَطرَ الشيء لنصفه، وشاطرتُ فلانا الشيء، إذا أخذت نصفه وأخذ هو النصف ” انتهى.. من مقاييس اللغة.
أن يتقاسم الناس الأشياء المادية فهذا أمر يفهمه الناس لكن الغير مألوف أن تـتقاسم ” الهوى”، الحب وهو شيء معنوي وهو مجاز مباح وجميل جداً والأجمل منه أن تحصره بين اثنين والأجمل منه أن تحصره بين متماثلين كشاعر وشاعرة، وربما يساعده ما ورد في الأثر:

” ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا هُوَ قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ” انتهى.

أما كيف أعطي شطر الحسن ففيه كلام طويل ليس هنا محله.
ولكي تكتمل الصورة وهو ما فعلته شاعرتنا الجميلة، وأبيات “ذاكرة الطين” التي تخاطب بها المصطفى صلوات الله عليه:

فأنا وحسـانٌ تـقاسـمْـنا الهوى

نصفي الخفيّ ونِصْفه المشهورُ

وأنا الــيـراعة والـمداد كأبحرٍ
نـفِــدَتْ لـتحــملها إلـيكَ سطورُ

فمن فرط حبها للكتابة والتعلم نراها هنا تستخدم الاستعارة أو التشبيه وتسمي نفسها يراعة والبحر مدادا، بل وعيون الماء كذلك التي ببلدها، وتؤكد هذا المجاز في قصيدة ” سِفـْرٌ من التأويل:”

يراعتي بُرعمٌ في النخلِ أحْمِلهُ
وكلُّ عينٍ بهذي الأرضِ مِحبرتي
بل وتجاوزت حد المجاز إلى درجة أنها أصبحت هي المجاز نفسه لأنها كلاهما ذاب في الآخر:

أنا الـمجــازُ إذا ما جُـمــلةٌ كــشفــتْ
سـحـرَ الكـنايـةِ في أبــعــادِ مُــفردةِ

أنا الــبــديــعُ فـساتــيـني مــطـــرزَّةٌ
بالسّجعِ / بالضِدّ والتجنيسُ زخرفتي

أنا العــروضُ وروحي نـفـْـخُ دوزنةٍ
من القــصـائــدِ والأوتـارِ والــنوتِ

أسيرُ للنحوِ – علّ النحـوِ – يعربني
فـعــلاً تـجـذرَ من نـبـضي وأوردتي

لا أملك إلا أن أرفع القبعة احتراماً لهذه المقطوعة الرائعة التي اختزلت في معانيها كل جمال ومعاني اللغة العربية من نحو وبلاغة وصرف وما يتفرع عنها من مجاز وبديع واستعارة وتشبيه…و…و…بالخصوص:

أنا العروض وروحي نفخ دوزنة،

لوحة لسمفونية رائعة، فآلة وأوتار ونـُوت.

وهي بذلك تحاكي قول المتنبي:

أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي
وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـمُ

ما أكثر المجاز في ديوانيها ولو أسهبنا لملّنا القارئ، والبلاغة هي الإيجاز.
ونقف بك على آخر استشهاد للاقتباس والمجاز ولتعذروني، ففي قصيدة ” بين سدرةٍ وخِضاب” اقتباس لطيف لقوله تعالى ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ”:
شـجــرٌ سيوقـدُ من سُلالةِ زيتهِ
شــجــرٌ يــشـعُّ هنا بلا قــداحِ

لو كان نــور الله مـشــكاةً لــنا
فـنخـيـلها كزُجـاجةِ المصـباحِ

تهاني وعمتها النخلة:
يكفينا استشهاداً هنا عنوان ديوانها ” فسائل” ومن المعلوم أن النخلة أقوى ما تكون في مراحل حياتها وهي فسيلة تحت أمها وقد أثمرت. فكأنها أرادت أن يكون ديوانها دائما في حالة الشباب والعنفوان والقوة والعطاء، وهذا من توفيق الله سبحانه وتعالى، على أنها ختمت ديوانها باستعارة جميلة تناسب العنوان: ” بضاعتي ليست مزجاة…. فشكراً لكل من منحني بعض الوقت لتفقدها”. ومن منا لم يتفقد يوما ما فسائله. وهي بذلك أوفتْ بنذر أمها.
فيها سيُعـلنُ حقـلنا الهجريّ يومَ توجـسٍ.
لفـسيلةٍ تـهفـو.
لرائحةِ الطينِ التي عَـبقتْ بها.

أما الشاهد الآخر، فقافلة النخيل التي كانت الأستاذة تهاني أحد أعضائها لتمثيل شعراء الأحساء بكوكبة من كبار شعرائها وشاعراتها الذين جابوا أرجاء المملكة للتعريف بالشعر الأحسائي.

ما أكثر ذكر النخلة في شعر تهاني الصبيح، وهي تنم عن حب عميق لهذه الأرض لدرجة أنها تجرها لجذورها:
أحساءُ يا أمّي الّتي انعقدتْ بها
روحـي لــتـــسْكُـنَ دفَّـةَ الألْـــواحِ

فَغزَلْتُ من شَتْلِ الأرُزّ عباءَتي
ونَسَجْتُ من خَيْطِ الغيومِ وِشَاحِي
إن التركيز على ذكر أجزاء النخلة في مقاطع متعددة تزيد القناعة عندي بترسيخ ديمومة عنفوان وثمرة وعطاء هذا الديوان فهنا في قصيدة ” آمنتُ باسمكَ”:
سأهز جذعك في المخاض لعلّه
يتساقطُ الرُطبُ الجنيُّ أمامي

وفي قصيدة ” الجوف:

رأيتُ في روحها البيضاءِ واحتنا
ما بين جذعٍ علا أو سعفةٍ تهفو

إلى روح الصداقة الآسرة
وقصيدة كرمُ السنابل” صورة حية رائعة أخرى

يا أنتِ يا جذع النخيل

يساقطُ الرُّطبِ
الجنيِّ

على الذين ترجّلوا
عن صهوةِ

الجوع المُميتِ
 بلا نفادْ..
….

من أين أبدأ يا صديقةَ

كلِّ غيمٍ 
قد تغشاها هطولاً
سرمديّا
 ثم جادْ.

ومن قصيدة ” بين سدرة وخضاب”

إلى مديني الأحساء صور حية تحكي عن نفسها

:
صـبرُ الـنَّخيلِ وهِــمةُ الـفلاحِ
ســيُـقــطّـــران كـمـــائِــها الـلـــقــاحِ

جيشٌ من النخل الأبّي بداخلي
في الجذع تُرسيَ في العذوق سلاحي

عاهدت نخلكِ أن أغنّيَ حينما
فـــأسا يـــــلـــوح بــقـــبضـة السّفاح

عاهدت نخـلكِ أن اغنّي حينما
غـــصـنٌ يــمـــيل لـبـلـــبــلٍ صـداح

حُلُمٌ يراني أعصر التمر الذي
ســـتـــذوب في تــأويـــلــهِ أقـــداحي

“قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا” يا ترى ما هذا الحلم الذي ستذوب في تأويله أقداحكِ؟!! ” نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ”؟
ونختم الكلام عن النخلة بآخر قصيدة في ديوانها فسائل، قصيدة “كوكب” قصة امرأة حيرى في زمن أشباه الرجال

بين إحدى وعشرين سنةٍ وواحد وعشرين بيتاً تقع القصيدة الأنثى التي ستسمح للعطر أن يحلق من جديد:

وهناك للــدعوات سرُّ عِــبادةِ
تــتلو الــصلاة ودمــعةٌ ستُعـقّـبُ

وعــباءةٌ تطوي مواجعَ سيرةٍ
تاريخها امرأةٌ وقـــلبٌ مــتــعــبُ

والصبرُ ينحـتها لتــصبـحَ آيةٌ
من فوقِ هامات النَّخيلِ ستنصبُ

محطة أخرى وهي الإخلاص والوفاء في شعر تهاني:
لئن أوفت الشاعرة تماضر بنت عمرو السلمية ” الخنساء” لأخيها في قصائدها فلقد أوفت الشاعرة تهاني بن حسن الصبيح لأمها في قصائدها أشد الوفاء بل ولمجتمعها ومحبيها. ولقد أخذت قصائد الرثاء قسطاً وافراً من ديوانيها وبالخصوص القصائد التي قيلت في أمِها، أبيات تنم عن الوفاء واللوعة وألم الفراق و من قصيدة ” آخر وداع على دكة المغتسل”

مــذ مـدّدُوها فـوق دَكَّةِ غُـسْلِها
ألـفــيــتُ آمــالي هــنــاكَ تُـمــدّدُ

أمّي تــواعــدُ كل يـومٍ مــوْتها
حتى ” تفرّدَ ” في لِقاها الـموعـدُ!

في النعشِ مِسْبحةٌ وملحُ تصبرٍ
من دمعها، والـتضحياتُ الـمِزودُ

عن طلْقةِ في الرحمِ – نزْعُ رصاصةٍ
من غيرِ قدْحٍ بالزنادِ ستولدُ 
عن جنةٍ

تبـِعت مواطئَ رِجلها
حــيـــناً تـقــبلها وحــيناً تـــسـجـدُ

هنا استفادة جيدة من حديث الجنة تحت أقدام الأمهات، جاء في كتاب رحلة حقوقية في حق الأم، “لفتى الأحساء”: وكان رجل من النساك يقبل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أخوته فسألوه فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات
أمي صـلاة الــوَترِ، كُــنْهُ عُروجِها
في أذكارها تــتــفردَُ
أمي اخــتـزالُ الأمـــهــاتِ إذا بــدا
قلبٌ يرفُ ولحْظُ عينٍ يرْصدُ

الروعة في استخدام المفردات والكلمات والصور البيانية التي تجعلك كأنك تنظر إلى لوحة فنان كلاسيكي فتغنيك عن كل التفسيرات، انظروا إلى توظيف الكلمات في هذه الأبيات الرائعة من قصيدة ” انحناءة قوس”:

الزعفرانُ سرى بمفرقِ رأسها
ناراً على موجِ البياضِ ستلمعُ
صورة شبيهة ببيت الخنساء:

وإن صخرا لـتـأتـم الهداة به
كأنــه عــلم في رأسه نار
فهنا نار وهناك نار وكلها تلمع وتضيء ويستضاء بها
والمبخر الخشبيُّ يسرقُ ” نفـحةً ”
من عطفةِ الفستانِ وهو يضوِّعُ

ومواســـمُ الحــناءِ تـنـقُــشُ كـفـها
وشــماً بــذاكرةِ السـنـين سيـقـبعُ

هل ” ديرمٌ ” هذا الذي رسمتْ به
شفـتـيها أمْ شـمس بـنا تــتصدع؟

قد تنْحـني كالقــوس قامــتـها التي
سـتــشدُّ أوتــارَ الحــياةِ وتــدفـعُ

إنها الأم فلها في كل حركة بركة ومنفعة فسلام الله على زين العابدين حيث يقول:
”وأنها وقــَتـْكَ بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها، وشعرها وبشرها. وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها” 
بهذه الصور الرائعة نختم مقطعنا هذا.

ومن ملح الدواوين:
الإخوانيات لأن فيها تبادل المشاعر والمحبة والأخوة وترطيب القلوب والنفوس. كما وفيها مجاراة للشعر لأن الشاعر يأتي بنفس القافية والوزن والمعنى ويبين مقدرة الشاعر وإجادته. ولقد رصدنا هذه الإخوانية لشاعرتنا الجميلة مع الأديبة أمل الفرج:

أميرةُ الشعرِ جاءَ الشِـعـرُ يكـتـبُها
في صفحةٍ أشرقتْ من دفتر الغسَقِ

وأحــرمَ الــفجـرُ يأْتمُ ابـتـسامـتـَها
وقد تــهجــَّدَ فـيـها روعــةَ الـخُلــقِ

وهام وجْداً على شُـطـآن نـظرَتها
فــتاهَ في لُـــجةٍ أنــهـــتهُ بالــغــرَقِ

فردت الأديبة أمل الفرج بذات الوزن والقافية:

عـرشٌ من الشـعـرِ..طـوفانٌ من الألـقِ
جـئتِ تـبـثـيهما في ساحةِ الأفقِ

يا غُـنـَّةَ الحــرفِ، هذا الحرفُ مبتهلٌ
إلى الـتـنـغّـمِ في واديـكِ بالشـفـقِ

يا لحظــةً كــتـبـتْ عــمـراً موانــئـــهُ
شعرٌ تمارى بمسّ الحبرِ والورقِ
ومن النص الثاني لتهاني:

قــرأتُ وحـيـكِ آياً فـيه بـسمـلـتي
فأشــرق الأمـلُ المـحمـومُ بالـوســقِ

ودثـَّرتْ عـتمة الأحزان هاجسها
إذ داعب النوُرُ صبْحاً من ندى الغدَقِ

وصار نبضُكِ تعـويذاً يـراودني
وصار في العُسرِ موشوماً على عنقي

إن ديوان فسائل ووجه هاجر احتوى على قصائد كثيرة فيها أغراض عديدة من الشعر كالمدح والرثاء والوصف والحكمة و قد تعرضنا للبعض منها، وتركنا الكثير، وفيها كنز لا يستهان به من المفردات الجميلة والمحلية التي تم توظيفها توظيفاً جيدا، فتحيرت ماذا أختار وماذا اترك حتى:
تكاثـرت الظباء على خـراشٍ
فـما يدري خـراش ما يصيدُ

أنا ممن حَضَرَ لها عدة مناسبات وإضافة لما قلنا، هي تعطي القصيدة حقها من حيث براعة الإلقاء فهي ذات صوت جهوريّ و تلوّن صوتها مع الألفاظ بما يناسب المعاني، كأن يُرفع الصَّوت في مواضع معيَّنة تُعبِّرُ عن حالةٍ نفسية ما، من أجل التأثير في المستمعين، كل ذلك وما يناسبه من لغة الإشارات وحركتها لإيصال الفكرة والانفعالات الشعرية.

وهذه قراءة متواضعة جداً لهم، لأن التعمق في قراءتهما تحتاج لمتخصص وناقد وأنا أفتقد كلتي الخصلتين.
فأرجو أن تلامس هذه القراءة الذوق الأدبي للقراء الأعزاء ولصاحبة الديوانين الأستاذة القديرة، الشاعرة تهاني حسن الصبيح.

وأخيراً تقول تهاني: سمّيته “وجهُ هاجر” 
لأنني متيقنة بأن الإصرار والسعي للوصول إلى الهدف ستكون نهايته مفاجأة جميلة ومدهشة من الإنجاز، وهذه هي المقاربة في وجه هاجر الحقيقي ووجها المجازي…ودليلنا على ذلك أبياتها التالية:

قـلــبٌ أنا حــول الــمــجـرّة ســافــرا
وسحابةٌ حُــبلى سترهـقُ أبـحُـرا

فإذا المــشـاعـرُ قـد ظـلَـلْنِ رواكــــداً
رئــتي الـرياحُ أحــركُ ما جرى

كانتْ بيَ الصَّحْراءُ حينَ سَمعْـتُـها
تبْكي على الطّفلِ الذي مَلأَ العَرَا
في

غَيْرِ ذي زَرْعٍ يُزمْزِمُ حَيْرَتي
ماءٌ بــقَدرِ السّعيِ فــجَّرهُ الثَّـرى

ومَلامِحِي امْرَأةٌ سَيَنْحَتُ صَبْـرُها
وجْهَاً يُرينِي في الــمَرَايا هَاجَــرا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى