أقلام

احترام الإنسان

محمد محفوظ

ثـمـة حـقـيـقـة أسـاسـيـة يـبـرزهـا الـنـص الـقـرآنـي, وهـي أن الإنـسـان هـو صـانـع حـركـة الحـيـاة ضـمـن الـسـن الـكـونـيـة والاجـتـمـاعـيـة الـتـي تمـثـل الـقـوانـي الـتـي أودعـهـا ال ف الـكـون وف حـركـة الإنـسـان ف المجـتـمـع. لـذلـك
يـقـول تـبـارك وتـعـالـى: (ذلـك بـأن الله لـم يـك مـغـيـراً نـعـمـة أنـعـمـهـا عـلـى قـوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميعٌ عليم) الأنفال, الآية .)53
فـالإنـسـان يـتـحـرك ف الحـيـاة مـن خـلال أفـكـاره, وحـركـة الأفـكـار هـي الـتـي تمـثـل حـركـة الحـيـاة. لأن حـركـة الحـيـاة هـي صـورة مـا نـفـكـر بـه. لـذلـك كـلـه فـإن الـتـغـيـيـر الـذاتـي عـلـى مـسـتـوى الـطـبـائـع والأفـكـار والـقـنـاعـات, هـو قـاعـدة الـتـغـيـيـر الاجـتـمـاعـي والـسـيـاسـي. فـقـضـايـا الاجـتـمـاع الإنـسـانـي لا تـتـغـير وتتحول إلا بشرط التحول الداخلي – الذاتي – النفسي.
فـالـتـعـالـيـم الـقـرآنـيـة واضـحـة في أن هـذا الـكـون وحـيـاة الإنـسـان سـنـنـاً وقـوانـي, هـي الـتـي تـتـحـكـم ف مـسـيـرة الـكـون, كـمـا أنـهـا هـي الـقـوانـي المسيرة لحياة الإنسان الفرد والجماعة.
والإنـسـان ف المـنـظـور الـقـرآنـي, هـو نـفـحـة ربـانـيـة اسـتـحـقـت الـتـكـري الـذي بـوأهـا أعـلـى مـرتـبـة ف الـوجـود , أعـنـي الاسـتـخـلاف ف الأرض بـصـريـح
الآيـة الـقـرآنـيـة (وإذ قـال ربـك لـلـمـلائـكـة إنـي جـاعـلٌ ف الأرض خـلـيـفـة قـالـوا أتجـعـل فـيـهـا مـن يـفـسـد فـيـهـا ويـفـسـك الـدمـاء ونـحـن نـسـبـح بـحـمـدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون) البقرة, الآية .30
ومـن أجـل ذلـك اسـتـحـق الإنـسـان الـتـكـري بـقـولـه تـعـالـى: (ولقد كـرمـنـا بـنـي آدم وحـمـلـنـاهـم ف الـبـر والـبـحـر ورزقـنـاهـم مـن الـطـيـبـات وفـضـلـنـاهـم عـلـى كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء, الآية .70
وحـتـى يـحـقـق الإنـسـان وظـيـفـتـه عـلـى أحـسـن وجـه كـان كـل مـا ف الـوجـود
مـسـخـراً لـفـائـدتـه, وكـان الـعـالـم مـسـرحـاً لـكـل فـعـالـيـاتـه بـصـريـح آيـات قـرآنـيـة
عـديـدة مـنـهـا قـولـه تـعـالـى (ألـم تـر أن ال سـخـر لـكـم مـا ف الأرض والـفـلـك تجـري ف الـبـحـر بـأمـره ويمـسـك الـسـمـاء أن تـقـع عـلـى الأرض إلا بـإذنـه إن
ال بالناس لرؤوف رحيم) الحج, الآية .65
والـكـائـن الإنـسـانـي ف الـرؤيـة الـقـرآنـيـة, لـه الـقـدرة والاسـتطـاعـة عـلـى ممـارسـة الحــريــة والاخــتــيــار. بمــعــنــى أن الــفــعــل الإنــســانــي لــيــس خــاضــعــاً لمــقــولات الـقـسـر والجـبـر, كـمـا أنـه لـيـس بـعـيـداً عـن قـوانـي الله سـبـحـانـه وأنـظـمـتـه ف الـكـون والمجـتـمـع. بمـعـنـى أن الـبـاري عـز وجـل هـو خـالـق أفـعـال الإنـسـان, لأنـه بـجـمـيـع أفـعـالـه مـخـلـوق ال, ولـكـن مـع ذلـك لـه اسـتـطـاعـة يـحـدثـهـا ال فـيـه مـقـارنـة لـلـفـعـل. لـذلـك فـإن الإنـسـان مـكـتـسـب لـعـمـلـه, وال سـبـحـانـه
خـالـق لـكـسـبـه. فـالـفـعـل الإنـسـانـي ف مـخـتـلـف دوائـره ووجـوده, هـو خـاضـع لمـنـظـومـة مـن الـقـيـم والـسـن والـتـي يـنـطـلـق الـفـعـل الإنـسـانـي مـن خـلال الالـتـزام بـهـذه المـنـظـومـة. فـالإنـسـان لـيـس خـالـقـاً لأفـعـالـه, كـمـا أنـه لـيـس مـجـبـوراً ف أفـعـالـه وإنمـا هـو )لا جـبـر ولا تـفـويـض وإنمـا أمـر بـي أمـريـن)
لـذلـك يـقـول تـبـارك وتـعـالـى (وربـك يـخـلـق مـا يـشـاء ويـخـتـار مـا كـان لـهـم)
الخـيـرة سـبـحـان الله وتـعـالـى عـمـا يـشـركـون) الـقـصـص, الآيـة 68(.. والله سـبـحـانـه وتـعـالـى أكـرم مـن أن يـكـلـف الـنـاس مـا لا يـطـيـقـون, والله أعـز مـن أن يــكــون ف ســلــطــانــه مــالا يــريــد.. فــإرادة الله هــي الــتــي صــنــعــت إرادة الإنـسـان. والإنـسـان هـو الـكـائـن الـوحـيـد الـذي اخـتـار أن يـكـون قـدره أكـثـر مـن إمـكـان واحـد, وأوفـر مـن احـتـمـال واحـد ف الـزمـان والمـكـان. لـهـذا كـلـه فـإن احـتـرام الإنـسـان وصـيـانـة حـقـوقـه مـن أعـظـم المـهـام والـوظـائـف ف حـيـاة الإنـسـان ف الـوجـود. فـلا يـصـح بـأي شـكـل مـن الأشـكـال أن الـبـاري عـز وجـل يـكـرم الإنـسـان ويـصـون حـرمـاتـه وحـقـوقـه, ويـأتـي الإنـسـان ويمـتـهـن
حقوق الإنسان وكرامته.
إن الـتـوجـيـهـات الإسـلامـيـة, تـؤكـد وبـشـكـل لا لـبـس فـيـه, أنـه لا يـجـوز بـأي حــال مــن الأحــوال انــتــهــاك كــرامــة الإنــســان أو الــتــعــدي عــلــى حــقــوقــه ومكتسباته الإنسانية والمدنية.
والاخـتـلافـات الـعـقـديـة والـفـكـريـة والـسـيـاسـيـة بـي بـنـي الإنـسـان, لـيـسـت مـدعـاة ومـبـرراً لانـتـهـاك حـقـوقـه أو الـتـعـدي عـلـى كـرامـتـه. بـل هـي مـدعـاة لــلــحــوار والــتــواصــل وتــنــظــيــم الاخــتــلافــات وضــبــطــهــا تحــت ســقــف كــرامــة
الإنسان وصون حقوقه.
ولـقـد آن الأوان بـالـنـسـبـة لـنـا نـحـن الـعـرب والمـسـلـمـي, إلـى إعـادة الاعـتـبـار إلـى الإنـسـان ومـقـاومـة كـل حـالات الـتـعـدي عـلـى حـقـوقـه ومـكـتـسـبـاتـه. فـالاخـتـلاف مـهـمـا كـان شـكـلـه أو طـبـيـعـتـه, لـيـس مـبـرراً ومـسـوغـاً لانـتـهـاك حـقـوق الإنـسـان. فـالخـالـق سـبـحـانـه وتـعـالـى أكـرم الإنـسـان, ودعـانـا وحـثـنـا جـمـيـعـاً وعـبـر نـصـوص قـرآنـيـة عـديـدة عـلـى احـتـرام الإنـسـان بـصـرف الـنـظـر
عن لونه أو عرقه أو فكره, وصيانة كرامته وحقوقه.
والحـريـة بـوصـفـهـا مـصـدر المـسـؤولـيـة, لا تـفـضـي بـالـكـائـن الـبـشـري إلـى اخـتـيـار الحـق والـعـدل والخـيـر بـالـضـرورة. بـل تجـعـل الاخـتـيـار مـفـتـوحـاً عـلـى جـمـيـع الاتجـاهـات والاحـتـمـالات. لـذلـك كـان الـتـاريـخ الـبـشـري حـافـلاً بـاخـتـيـار الـظـلـم والـشـر إلـى جـانـب الـعـدل والخـيـر, وكـان الإنـسـان مـسـؤولاً عـن ذلـك كـلـه. أمـا الـكـائـنـات الأخـرى, فـلـيـسـت مـسـؤولـة عـن مـا يـعـرض لـهـا أو بــســبــبــهــا لأنــهــا لــيــســت كــائــنــات مــخــتــارة. فــالــبــاري عــز وجــل لــم يــخــلــق الإنـسـان خـلـقـاً جـامـداً خـاضـعـاً لـلـقـوانـي الحـتـمـيـة الـتـي تـتـحـكـم بـه فـتـديـره وتـصـوغـه بـطـريـقـة مـسـتـقـرة ثـابـتـة, لا يمـلـك فـيـهـا لـنـفـسـه أيـة فـرصـة لـلـتـغـيـيـر ولـلـتـبـديـل, بـل خـلـقـه مـتـحـركـاً مـن مـواقـع الإرادة المـتـحـركـة الـتـي تـتـنـوع فـيـهـا الأفـكـار والمـواقـف والأفـعـال, ممـا يـجـعـل حـركـة مـصـيـره تـابـعـة لحـركـة إرادتـه. فـهـو الـذي يـصـنـع تـاريـخـه مـن خـلال طـبـيـعـة قـراره المـنـطـلـق مـن مـوقـع إرادتـه الحـرة, وهـو الـذي يمـلـك تـغـيـيـر واقـعـه مـن خـلال تـغـيـيـره لـلأفـكـار والمـفـاهـيـم والمـشـاعـر الـتـي تـتـحـرك ف واقـعـه الـداخـلـي لـتـحـرك الحـيـاة مـن حـولـه. وهـكـذا أراد ال لـلإنـسـان أن يمـلـك حـريـتـه, فـيـتـحـمـل مـسـؤولـيـتـه مـن مـوقـع الحـريـة. ويــدفــعــه إلــى أن يــواجــه عــمــلــيــة الــتــغــيــيــر ف الخــارج بــواســطــة الــتــغــيــيــر ف الــداخــل, فــهــو الــذي يــســتــطــيــع أن يــتــحــكــم بــالــظــروف المحــيــطــة بــه, بــقــدر عـلاقـتـهـا بـه, ولـيـس مـن الـضـروري أن تـتـحـكـم بـه. فـالإنـسـان هـو صـانـع
الـظـروف, ولـيـسـت الـظـروف هـي الـتـي تـصـنـعـه. وعـلـيـه فـإن تـطـويـر واقـع الحـريـة ف الحـيـاة الإنـسـانـيـة, يتـوقـف عـلـى الإرادة الإنـسـانـيـة الـتـي يـنـبـغي أن تـتـبـلـور بـاتجـاه الـوعـي بـهـذه الـقـيـمـة الـكـبـرى أولاً, ومـن ثـم َّ الـعـمـل عـلـى إزالـة كـل المـعـوقـات والـكـوابـح الـتـي تحـول دون الحـريـة. فـالحـريـة ف الـواقـع الإنساني لا توهب, وإنما هي نتاج كفاح إنساني متواصل ضد كل النزعات الـتـي تـعـمـل عـلـى إخـضـاع الإنـسـان وإرادتـه. سـواء كـانـت هـذه الـنـزعـات ذاتـيـة مـرتـبـطـة بـحـيـاة الإنـسـان الـداخـلـيـة, أو خـارجـيـة مـرتـبـطـة بـطـبـيـعـة الخـيـارات الـسـيـاسـيـة والاقـتـصـاديـة والـثـقـافـيـة, الـتـي قـد تـسـاهـم في إرجاء الحرية أو تعطيلها ووأد بذورها الأولية وموجباتها الأساسية.
ومـا دام الإنـسـان يـعـيـش عـلـى ظـهـر هـذه الـبـسـيـطـة, سـيـحـتـاج إلـى الحـريـة الـتـي تمـنـحـه المـعـنـى الحـقـيـقـي لـوجـوده. ولـكـي يـنـجـز هـذا المـعـنـى, هـو بـحـاجـة إلى إرادة وكفاح إنساني لتذليل كل العقبات التي تحول دون ممارسة الحــريــة الإنــســانــيــة عــلــى قــاعــدة الــفــهــم الــعــمــيــق لــطــبــيــعــة عــمــل ســن ال سـبـحـانـه ف الاجـتـمـاع الإنـسـانـي. ومـن هـنـا ومـن خـلال هـذه المـعـادلـة الـتـي تـربـط الـوجـود الإنـسـانـي برمـتـه بـالحـريـة والإرادة والمـسـؤولـيـة, فـإن الـكـدح الإنـسـانـي سـيـتـواصـل, والـشـوق الإنـسـانـي إلـى الحريـة والـسـعـادة سـيـسـتـمـر, والاحــبــاطــات والــنــزعــات المــضــادة ســتــبــقــى مــوجــودة وتــعــمــل ف حــيــاة الإنـسـان. لـذلـك فـإن الـوجـود الإنـسـانـي هـو عـبـارة عـن مـعـركـة مـفـتـوحـة بـي الخـيـر الـذي يـنـشـد الحـريـة والـسـعـادة والـطـمـأنـيـنـة الـقـلـبـيـة, والـشـر الـذي لا
سبيل لاستمراره إلا البطر والطغيان والاستئثار.
ولــكــي يــنــتــصــر الإنــســان ف مــعــركــتــه الــوجــوديــة, هــو بــحــاجــة إلــى الإيمــان والــعــلــم والــتــقــوى, حــتــى يــتــمــكــن مــن هــزيمــة نــوازعــه الــشــريــرة وإجــهــاض وتهذيب نزعات البطر والطغيان.
ولا يـخـفـى أن شـعـور الإنـسـان بـالأمـن والـطـمـأنـيـنـة ف الحـيـاة هـو الـشـرط الـضـروري لـكـي يـقـدم عـلـى الـعـمـل والإنـتـاج والـتـعـمـيـر ف الأرض. فـفـي مــنــاخ الأمــن الــنــفــســي تــنــمــو الــقــدرات الــذهــنــيــة وتــتــجــه نــحــو الإبــداع, وتـنـشـيـط الـقـدرات الإنجـازيـة وتـتـضـاعـف فـعـالـيـتـهـا ويـزكـو إنـتـاجـهـا. فـإنـسـانـية الإنـسـان ف جـوهـرهـا وعـمـقـهـا مـرهـونـة بـحـريـة الإنـسـان. إذ ان الحـريـة هـي شــرط إنــســانــيــة الإنــســان. وحــيــنــمــا يــفــقــد هــذا الــشــرط, يــفــقــد الإنــســان مـضـمـونـه وجـوهـره الحـقـيـقـي. لـذلـك فـإنـنـا نـرى أن احـتـرام آدمـيـة الإنـسـان, ومـجـابـهـة أي مـحـاولـة تـسـتـهـدف انـتـهـاك حـقـوقـه الأسـاسـيـة, هـي الخـطـوة الأولـى ف مـشـروع تحـقـيـق إنـسـانـيـة الإنـسـان. فـالإنـسـان بـكـرامـتـه وحـرمـاته وحـقـوقـه, هـو حـجـر الأسـاس ف أي مـشـروع تـنـمـوي أو تـقـدمـي. لـذلـك فــنــحــن بــحــاجــة دائــمــاً إلــى رفــع شــعــار ومــشــروع صــيــانــة حــقــوق الإنــســان
وكرامته بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو قوميته أو ايدلوجيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى