أقلام

رائحة تعم المكان!

سهام البوشاجع

بخور يوم الجمعة في بيت جدي، رائحة أوراق الدفاتر، وأقلام الحبر العريضة، عطر العريس مساء زفافه، رائحة جلد السيارة الجديدة، والأسفلت في شوارع الحي، كلها روائح منهم من أحبها وتعلق بها، ومنهم من كرهها وغطى بيده أنفه حتى لا تتشبع رئتاه بها.
روائح في ظاهرها مجرد مادة غازية كيميائية منتشرة في الهواء القريب، وفي باطنها كتب روائية وقصص أجمل من أن تحكى وذكريات لا تنتهي، عابقة عبر الحياة ما إن يمر بنا شيء من نسماتها حتى نتذكر اليوم والساعة والحدث والناس التي كانت تتواجد ضمن محيطها.
قد تحمل لنا هذه الروائح لحظات فرح حتى إن كانت رائحة معقمات المستشفى، فلا ضير إن كانت المناسبة ولادة الطفل الأول في العائلة، ولا حرج إن كانت الرائحة لغاز مزعج، فلطالما هذه الرائحة تذكرنا بسيارة الغاز التي كنا نلاحقها في الحارة ونحن أطفال غير مبالين بالضرر الذي قد يلحق بنا، ما دمنا وسط كثافة الغيمة البيضاء التي تطلقها خلفها، ولا بأس إن كانت الرائحة لخبز الزعتر الذي يعود بذاكرتنا إلى مقاعد الصف وممرات المعامل وصوت أجش، يأمرنا بالدخول إلى الفصول بعد انتهاء الفسحة.
الروائح ليست مجرد مواد كيميائية ومركبات من ذرات وعناصر مختلطة أو متفاعلة، بل هي الحياة مجتمعة منذ ولادتنا وشراشفنا المختلطة بروائح البودرة، وحتى مماتنا حين تختلط أكفاننا برائحة السدر والكافور.
واحدة من أعراض الإصابة بكورونا الفترة السابقة أن فقد بعض الناس حاسة الشم حين أصيبوا بالمرض، وكان هذا العارض أسوأ ما أصابهم، كما عبر عنه البعض بأنه أشبه ما يكون بالفقدان الجزئي لمعنى وطعم الحياة، فلا رائحة لكل شي، ففي الأكل لا رائحة للثوم والبصل ولا طعم في الفستق المنثور على طبق الكنافة، ولا عبق أو رائحة في كوب القهوة التي يتناولونها، وفي الملابس اختفت رائحة العطور الغالية المنثورة عليها، وعندما مروا على أقذر حاوية قمامة في الشارع لم تكن تعج بالروائح العفنة، بل وحتى لا رائحة لمادة الفيكس التي دهنوا بها أنوفهم وصدورهم وقتها.
وفي الحقائق العلمية تتنوع الروائح وتختلف باختلاف أماكن انبعاثها، بل وتشتهر بعض المناطق بها، ففي وطني تعبق بشوارع وجدران منازل أهل الشرقية والغربية رائحة البحر وملوحته، وتعطر ثياب أهالي الأحساء رائحة سعف النخيل المحروق والتي يسمونها “الطبينة” وتفوح من أهل الجنوب رائحة السدر والقهوة والهيل والورد الطائفي، وتختلط بأهالي الشمال روائح الفواكه والحمضيات، وتعبق أصالة عطور الخزامى والعود والعنبر في أهالي نجد والرياض.
وهكذا حين تزور أي مكان في العالم تخبرك رائحة ذلك المكان بتاريخه وجزء من عاداته، وليس الصوت وحاسة السمع بأقدر على تمييز ذلك من الروائح وحاسة الشم، وقد عبر الشاعر البريطاني “رودبارد كيبلنج” عن هذا الأمر وقال: (الروائح هي أقدر من الصور والأصوات على اختراق أوتار القلوب) وكانت “مادلين بروست” رمزا لعلاقة الروائح بالماضي وذكرياته وقد تحدث عنها الكاتب الفرنسي “مارسل بروست” في روايته “في البحث عن الزمن المفقود”، حيث يروي كيف أنه عندما كان مستلقياً على سريره في أحد الفنادق ينتظر وجبة الفطور وقُدِّمت له كعكة مادلين (وهي الكعكة الفرنسية الشهيرة) أرجعته رائحتها إلى بيت عمته الرمادي القديم في مدينة كومبراي الفرنسية، حيث نشأ، وتذكر عندما كان يذهب لتحيتها كانت تقدِّم له كعكة المادلين بعد أن تغمسها في شراب الزيزفون.
وهكذا كان بروست أول من أشار إلى ظاهرة “الذاكرة غير الإرادية” التي تفسر قدرة التجارب الحسية، ولا سيما حاسة الشم العميقة والمعقَّدة، على أن تعيدنا فجأة إلى ذكريات بعيدة بقيت عالقة في أذهاننا على الرغم من مرور السنين.
ولا ننسى أوروبا وكيف تحولت عبر السنين من رائحة زيت المحركات والأوزون إلى رائحة التبغ الممزوج بالعطور كما ينقل الكاتب “ويليام توليت” من جامعة أنجليا روسكين عن تاريخها العميق ورائحتها المتركزة بين الأزمنة والثقافات إذ يقول عنها: (أنها ذات رائحة حادة لاذعة ونفاذة ودخانية)، ويسعى اتحاد أوروبا إلى تشكيل قاعدة بيانات باستخدام تقنيات الذكاء الصناعي لتشكيل تجارب كيف تعاملت المجتمعات مع الروائح الصعبة أو الخطيرة.
وعن الأنف وسلامة أغشيته وكيف نحافظ عليه لنستطيع المحافظة على حاسة الشم الغالية علينا يأتي السؤال الأكثر غرابة، هل نحن نشم الروائح من أنوفنا فقط؟ وستفاجئك الإجابة بأنه ليس الأنف هو العضو الوحيد الذي يشم الأشياء، فهناك أعضاء غير متوقعة في الجسم كالرئتين والأمعاء الغليظة والكلى أيضا تمتلك مستقبلات للشمّ تماما كالأنف، ولكن لم يتم اكتشاف كل الخلايا بعد.
كما أن هناك روائحا تحفز خلية موجودة في الأمعاء للروائح وتفرز هرمون السيروتونين، التي لها تأثير على تعزيز عملية الهضم.
والآن وفي هذه اللحظات وأنت تقرأ هذه الكلمات ماهي الرائحة التي تعم المكان الذي تجلس فيه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى