أقلام

عدوى النرجسية

وليد الهاشم

في بعض القبائل بأفريقيا، يُنظر لجمال المرأة من خلال طول رقبتها، فتُوضع منذ طفولتها حلقات تضمن تباعد فقرات الرقبة، لتكون أطول ما يمكن، ولو تم انتزاع تلك الحلقات، تُكسر الرقبة فوراً لضعف العضلات المحيطة بها.

صورة أخرى بشعة كانت في مجتمعات الصين القديمة، فهناك يُنظر لجمال المرأة من خلال صغر قدمها، فتتم صناعة قالب نحاسي طوله عشرة سنتيمترات فقط، لأقدام البنات ويلبسونهن تلك القوالب في فترة طفولتهن، حتى يمكن التحكم بنمو القدم، بحيث لا يتجاوز معيار ذلك الجمال.

كانت الكسور والتشوهات التي يشاهدها الآباء على بناتهم تمر دون شعور بتأنيب الضمير،وببساطة يستمرون في ذلك دون شعور بمعاناة بناتهم إطلاقاً لأنهم لا ينظرون لهن على أنهن بشرٌ!

استمرار الأذى لسنوات وقرون طويلة نابع من جذور غريزة طبيعية لدى الإنسان منذ طفولته، وحتى مراحل النضج، وهي تعرف بالسمات النرجسية، التي تلعب دوراً مهماً في المناعة النفسية وحماية الذات ضد التنمر من خلال إعلاء شأن الذات.
ووجودها صحي بنسبة مقبولة، ولكن ذلك قد يتحول إلى اضطراب مرضي في الشخصية لدى بعض الناس، وهو من الأمراض التي تقع ضمن مسؤولية الطب النفسي في تشخيصها وعلاجها، وهذا ليس مما سنتناوله في سطورنا بهذا المقال.

في البداية نود التفريق بين الشخصية النرجسية كمرض موجود، يصيب سلوك ب عض الأفراد. والسمات النرجسية التي تحصل على شكل عدوى تنتشر في المجتمع، سواء في الأسرة أو العمل، حتى تصل للثقافة الاجتماعية، وتتحول الثقافة من وسيلة للمناعة والتغلب عليها إلى أداة بيد فئة من الناس لتكريسها، وتعزيز المزيد من التفشي لهذا النمط الاجتماعي المريض، الذي تفشل فيه كل مشاريع الإصلاح، وخطط التنمية في معظم التجارب الديموقراطية، أو محاولات النهضة بمقومات ذلك المجتمع.

تعد العوامل الوراثية- حسب الدراسات- مؤثرة بنسبة 25٪ فقط في تفاقم المشكلة، في حين تتحمل تصرفات المجتمع و تنشئته في الأسرة والعلاقات 75٪ من التأثير، مما يفتح باباً واسعاً من النقاش حول الموضوع المسكوت عنه، والمهمل والمكرس. في الوقت نفسه للمعاناة العميقة- كما سنوضحه من أمثلة – تدفع باتجاه عجلة التفكير دون أن تلم بجوانب المشكلة كاملة، وهي وسيلة لتجاوز التصنيف الدارج اجتماعياً، بالتقليدي، أو الحداثي؛ لنطلق مسمى خارج الصندوق باسم مجتمع نرجسي مريض يحتاج فتح حوار بقلب صادق وأفق واسع.

عندما نتجرأ باطلاق مسمى مجتمع نرجسي، فهو مكون من ثقافة نرجسية يقوم عليها بعض أفراد المجتمع، تتميز بتضخم الذات، والمبالغة في تقديم قدرتها على فهم الآخرين، وإدراك مصالحهم والتحكم فيهم وإعادة صياغتهم، ثم هناك فئة تحت مسمى الضحايا وفئة ثالثة هم المتفرجون الذين يستقون ثقافة المعتدي (الثقافة النرجسية ومن يمثلونها)، ويمارسون الضغط وتثبيت الضحايا، ويكبحون أية محاولات للتحرر، ولكن بالمقابل علينا أن ندرك أن النرجسية تقوم على تضخيم المكانة من خلال الحب والعطاء الذي يتبعه الكثير من الأذى، عبر صنع سيناريو موازٍ للواقع، تقوم فيه تلك الذات بدور البطولة في الحياة ومحط الأنظار.

تتميز العلاقة بين المعتدي والضحية في هذا المجتمع المريض من خلال دورة تبدأ بالإغراق بالحب، وتنتقل بعد التمكن إلى مرحلة الفتور والقطيعة، ويليها الانتقام، لتعود بعد ذلك من جديد مرحلة الإغراق عند محاولة الضحايا تغيير ظروفهم، ولكن بمساعدة المتفرجين هذة المرة، الذين يقنعون الضحايا بأنهم هم المخطئون وعليهم التوبة والاعتذار!

قد يتعجب البعض من من قدرة هؤلاء الذين يمثلون رعاة الثقافة النرجسية من قدراتهم في التحكم بهذا الشكل في مجتمع كامل، ولكن لتعلم أنهم يبنون تحركهم على معلومات دقيقة لنقاط الضعف، وقدرة فطرية على الاستغلال والتأثير، من خلال مهاجمة قدرة الناس على التفكير باستهداف المشاعر.

فالمشاعر مسؤولة عن معالجة الخبرات في الوجدان خارج منطقة اللغة، التي تشكل كماً هائلاً يفوق قدرة الذهن على معالجته بالمنطق واللغة، ولذلك تقوم المشاعر بترجمة تلك المعلومات وتقديم البيانات العمياء بشكل عالي الجودة، يمكننا من التفكير وإصدار الأحكام.

والمجتمع الذي لا يحترم حق التعبير عن المشاعر فريسة للاستغلال من قبل هؤلاء المتلاعبين، الذين يعتدون من خلال شل تفكير الآخرين بآليات كثيرة، منها المراوغة في النقاش ونسف حجج من يعارضهم بالاستخفاف بها، وتزييف الحاضر، وتقديم تصور مخادع عن المستقبل، ويدخلون المجتمع في سرديتهم التي ينسجونها، جاعلين ذواتهم محوراً وقطباً لذلك الوهم من الروعة،
ويستكملون ضمان استقرارهم بالمزيد والمزيد من عزل الضحايا عن أي مصدر لحل المعلومات، إلا عن طريقهم و الاستمرار في تنميط المجتمع، وإعادة صياغته دون سبب أو مبرر، كما يرونه هم، مدفوعين بنظرتهم لأنفسهم كأوصياء على الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى