أقلام

المنبر الفكري حسيني أم بدعة خطباء؟

زاهر العبد الله

عن الحسن بن علي بن فضال، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله العباد بكنه عقله قط، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم. الكافي – الشيخ الكليني ج ١ص ٢٣.

كثر الكلام عند بعض مثقفينا وبعض الخطباء عن تردد مصطلح المنبر الفكري حتى اختلط هذا المفهوم، فمنهم من يقول إنه أجنبي عن العطاء الإسلامي ولا يناسب المنبر الحسيني ولا يشمله، ومنهم من يقول إن هذا المفهوم مستل من آيات القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام كما في قوله تعالى{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى‏ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ(١٩١)} آل عمران.

ورواية عن أهل البيت عليهم السلام في التفكر والتأمل في الآيات والروايات كما ورد في الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص، ويقل التربص. ميزان الحكمة – محمد الريشهري ج ٣ ص ٢٤٦٤.

ولو رجعنا لتوصيات مرجعنا المعظم للخطباء فإننا نجده في واحدة من وصاياه يقول:

تجنّب القول بغير علم وبصيرة، فإنّ ذلك محرّم في الدين أيًّا كان مضمون القول، كما قال تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] (الإسراء: 36)، وليس في حسن قصد المرء وسلامة غايته ما يبيح ذلك، كما لا يقيه من محاذير ذلك ومضاعفاته.

ولن يتأتّى ذلك إلّا بتنمية المرء لعلمه فيما يتعلّق بمجال حديثه وسعة اطّلاعه وممارسته، والالتفات إلى مواضع الوفاق والخلاف ومواطن الوثوق والشكّ والريبة، والأخذ بالاحتياط في الأمور كلّها.

ومن جملة مقتضيات ذلك الاطّلاع المناسب على التاريخ وحوادثه وظروف الوقائع وملابساتها وقيمة المصادر ودرجة اعتبارها.

وعلى الإجمال: فإنّه ينبغي للمبلّغ أن يكون ذا فضيلة في العلوم ذات العلاقة، متجهّزًا بالأدوات اللازمة، ممارسًا في موضوع بحثه وحديثه، مطّلعًا على المعلومات المتعلّقة بذلك، متحوّطًا فيما لا يعلمه أو لم يتعلّمه بعد.انتهى كلامه دام ظله.

وهنا سنقف وقفه تحليلية نزعم أنها متجردة بحول الله تعالى لنرى هل خرج المنبر الحسيني عن إطاره فأصبح بدعة أم هي ضمن أدوات الإصلاح التي رفعها مولانا الحسين عليه السلام؟

فنقول وبالله التوفيق :هذه الآيات وهذه الروايات وهذه التوصيات جعلت المنبر الحسيني يتطور ليناسب لغة العصر ويتماهى مع سرعة المعلومات وعمقها المعرفي، فالمبلغون والخطباء أصحاب الفضيلة الجادون في مواكبة هذا التطور المعرفي والعلمي والثقافي سهروا الليالي فحضّروا وجاهدوا لتحضير مادة تناسب هذا التطور من خلال بحثهم الطويل ومتابعاتهم الدقيقة وجهدهم المتواصل، ليحيطوا بكل أبعاد المشكلة ويناقشوها بلغة عصرية تناسب جيل اليوم أو على أقل تقدير تناسب شريحة كبيرة من جيل اليوم ونجح هؤلاء الخطباء فعلًا لسد فراغ نهم المعرفة عند شباب اليوم وتقليل الفوارق بين العلم الأكاديمي والعلم الحوزوي وإن الإسلام لا زال ولا يزال يستطيع أن يتكيف مع كل الشبهات الجديدة ويرد عليها بكل اقتدار وأصالة وعمق، كما أنه لا يستنكف من أن يستفيد من بعض جوانبها التي تزيد من قوة الطرح وجمال البيان. وهكذا تغطي المنابر جانبًا كبيرًا من هموم الشباب التي يشعر من خلالها بالإحباط وأن دينه الإسلامي لا يتماهى مع ما وصل إليه التقدم العلمي والمعرفي، فيستعيد الثقة بدينه ومعتقده وإسلامه ومذهبه وعنده الاستعداد الكامل لأن ينفتح على العلوم والمعارف الحديثة ولا يخشى أية إثارة تُشكل له عائقًا أمام عرض آرائه وفكره بل الخطيب البارع والمفكر الطليعي الذي يتقدم خطوات ويجعل خطابه يسبق زمانه من خلال أطروحاته القيمة التي يتبناها كل عام.

إن المنبر الحسيني هو جامعة ومؤتمر علمي حافل بالمعارف الثقافية والقيم والفضائل والعبر والنعي والبكاء فهو منبر يلامس أبعاد الإنسان بمختلف جوانبه، وكل إنسان يتغذى بما ينقصه من هذا المنبر الحسيني الرائد. وكلامنا في هذا المقال مقيد بشرط وهو:

أننا نتكلم عن الذين التزموا الآيات والروايات وتوصية المراجع العظام لا غيرهم، كما أننا نعترف بتقصيرنا لأننا لم نحضر كل المنابر الحسينية كي تكون نظرتنا شمولية وكل كلامي مقيد بما تفضل الله به علي من خلال استماعي لتلك المنابر الحسينية في هذا الموسم المبارك ومنها منبر الشيخ الأستاذ عبد الجليل البن سعد حفظه الله تعالى ومنبر السيد منير الخباز ومنبر الشيخ محمد العبيدان ومنبر الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة ومنبر الشيخ حيدر السندي.

اشتركت هذه المنابر في أمر واحد دون التنقيص في حق أحد وهو رفع مستوى الوعي عند المستمع ووضع فهمه على مقدار الخطر المعرفي الذي يحيط به وما هي غايته وأهدافه و التأكيد على أصالة المعتقد وقوة المذهب في مواجهة هذه التحديات، كما وضعت هذه المنابر الخطوط العريضة لمجتمع واع لا ينخدع بالألفاظ الموهومة التي تدغدغ مشاعر الأنا والشهوة والشهرة فهناك مؤسسات تعمل لهدم معالم الإسلام من خلالها بما يسمى بلغة اليوم الحرب الناعمة التي قال عنها أحد الغربين إنها أقوى من حرب السلاح التي فحواها قلب المفاهيم وتمييعها وفرضها في الواقع الاجتماعي. ونذكر بعضها على سبيل الإشارة:

فكلمة الشذوذ قد وضعوا بديلًا لها وهو المثلية والجندرية، والتحلل القيمي والأخلاقي وضعوا بديلًا له وهو الحرية والتحرر من القيود والتفكير خارج المألوف، والعدل بين الرجل والمرأة حسب كل واحد مع طبيعة خلقه وما يناسبه من الوظائف التي تحافظ على كرامته وإنسانيته ويكون كل واحد مكملًا للآخر قد وضعوا بديلًا له التساوي والندية والعصبية والحقوق المطلوبة المضيعة (النسوية)، ولم يتركوا الطفولة البريئة في حالها بل مرروا شذوذهم الفكري المنحرف فوضعوا لها مسميات مثل حقوق الطفل، بل حتى الحيوانات لم تسلم من مخططاتهم وحتى الأموات لم يسلموا من تفكيرهم المنحرف كل ذلك تحت عناوين براقة شيطانية لا تمت للإنسانية بصلة بل ولا للفطرة السليمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان حيث قال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(٣٠){الروم.

هذه المواضيع نوقشت بعلمية راقية في المنابر التي أشرنا إليها رغم تفاوتهم في البيان ولغة الخطاب إلا أن كل خطيب منهم حاول جهده أن يقدم نظرية الإسلام المحمدي وأنه قادر على أن يواجه التحديات بكل بسالة واقتدار كما قدم الحسين عليه السلام روحه لأجل رفع المستوى الإيماني والقيمي في الأمة، فلا أشك من باب حسن الظن بهم أن منطلقهم كان رفع شعار الحسين عليه السلام (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي كي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)، وأؤكد هنا على أن هذا مالمسته من قراءتي الشخصية وقصوري عن بقية المنابر الرائدة التي حملت الهم نفسه في رفع مستوى المتلقين كل حسب زاويته وكلها مقدرة ومحترمة ومأجورة عند الله سبحانه وتعالى مادامت في خدمة الحسين عليه السلام وضمن الحدود الشرعية.

ومن المعيب جدًا على بعض متلبسي الثقافة أن يقفوا موقفًا سلبيًا أمام هذا الجهد المبارك الذي ما يزال يقدم من خلال المنبر الحسيني فكرًا عظيمًا يعلي مبادئ الحسين عليه السلام وأهدافه وقيمه، ويثبت عقائد الناس في فكرهم وعقيدتهم وعلمهم وثقافتهم، ويكون مع ذلك بكاء وعزاء وكله تحت خيمة واحدة اسمها الحسين عليه السلام وهي تستقي علومها وفكرها منه وتأخذ من منهج نوره وتهتدي به من الظلمات إلى النور. فعلينا أن نتقي الله سبحانه ونشكره أن وفقهم لهذا الجهد في إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله علي وأولاده المعصومون حجج الله، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى