أقلام

شذرات من حياة الإمام الرضا (ع) (١) 

السيد فاضل آل درويش

المحراب النوراني للإمام الرضا (ع)

وما عساك أن تسطر من كلمات تبين جوانب العظمة والألق في شخصية جمعت كل خصال الفضيلة والكمال وجسدتها على أرض الواقع، شخصية يتأسى بها من يطلب التكامل والترقي في شخصيته في جميع جوانبها وأبعادها المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، فرفعة الشأن مطلب لكل فرد وهو ممدوح بحدود إثبات الذات والوجود القوي ويثبته بنحو عملي وليس بالكلام الفارغ والأماني الكاذبة، فالإمام الرضا (ع) في علاقته بربه رسم خطوط القرب منه عز وجل وطلب رضاه والسير بخطى وفق إرادته وأحكامه سبحانه، وتتجلى في تلك العبادة الصادرة منه (ع) كل المضامين الأخلاقية التي تكسو النفس بثوب التقوى والخشية من الله تعالى ومحاسبة النفس، فتتجلى تلك القوة الإيمانية التي تتحرك جوارح الإنسان وفق تخطيطها الخاضع للعقل الواعي وليس للأهواء والشهوات المتفلتة، عبادة تلقي على النفس ظلال الأنس والطمأنينة والثقة بالتدبير الإلهي، فما يعاني منه الإنسان اليوم ويعد المرض الشائع هو القلق واضطراب النفس أمام المتاعب والصعوبات الباعثة على الهواجس، وما يجنبنا ويلات التوترات النفسية وتشوش الفكر بسببها هو محراب الطاعة والعبادة والوقوف بين يدي الله عز وجل، فإذا كان الواحد منا يبث همومه وشكواه للصديق المخلص من دائرة الثقة المحيطة به، فتهون عليه الأزمات والمشاكل والظروف القاسية التي يواجهها ويتألم بسببها، فكيف به إذا ناجى المهيمن على الكون وما فيه من قوى فتهدأ نفسه ويستعيد حينئذ توازنه العقلي والنفسي ؟!

العبادة الواعية تبعث في نفسه الإرادة الصلبة والهمة العالية فيواجه التحديات بحكمة ونظر في النتائج وصبر على الآلام فيزيح عن نفسه الضعف واليأس بعيدا عنه.

قال رجاء بن أبي الضحاك: والله ما رأيت رجلًا كان أتقى منه ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته، ولا أشدّ خوفًا لله عزّ وجلّ)( عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج ١ ص ١٩٤).

فهذا الرجل صحب الإمام الرضا (ع) في رحلته إلى مرو وجاءت منه هذه الشهادة التعريفية المختصرة وخلاصة بما شاهده من سلوكه (ع) في رحلة امتدت لأيام وأيام، فليس هناك من رجل في زمانه كان في أعلى درجات التقوى أو الورع عن محارم الله تعالى، والتقوى الذي كان في قمته وأعلاه والذي يحكي عن حقيقة عبادته وملازمته لمحراب العبادة والمناجاة، ولذا يصف الإمام (ع) بصفة ثانية وهي الانقطاع إلى الله تعالى واستغراق ذكر الله تعالى لجل أوقاته، وهذا لا يعني – بالطبع – تخلي الإمام (ع) عن مسئولياته التبليغية والإرشادية أو أنه كان مبتعدًا عن أوساط الناس، ولكن (ع) ما إن يفرغ من جهاده التوجيهي والتعليمي والتربوي لتلامذته والناس من حوله، حتى يخلد إلى ما يزيح عنه متاعب الحياة الرسالية وليس هناك من راحة للنفس عنده (ع) كمناجاة الله تعالى واستمداد القوة من تلاوة القرآن الكريم ومدرسة الدعاء.

والصفة الآخيرة التي يلخص بها هذا الشخص العلاقة العبادية للإمام الرضا (ع) هي أعلى درجات الكمال من الخوف من الله تعالى، والذي ينجم عن المعرفة بعظمته سبحانه واستيعاب صفاته عز وجل الجمالية والجلالية في كل ما يصدر منه (ع) من أقوال الحكمة والتصرفات الإيمانية، فالخوف من الله تعالى يشكل صمام الأمان والضمان في ارتداع النفس عن التلطخ بالموبقات والوقوع في أسر الأهواء والشهوات المتفلتة، إذ يحمل المؤمن يقينًا بأن الله تعالى يراه وملائكته عز وجل ترقبه وترصد كل حركاته ما أسر منها وما أعلن؛ ليواجه بها في يوم تنصب فيه الموازين وتنشر فيه صحائف الأعمال.

وهكذا نجد أن التأسي والسير على نهج الإمام الرضا (ع) في ناحية الطاعة والقرب من الله تعالى يعني الالتزام بتلك القيم والمضامين التي تحملها العبادة الواعية وأهمها الورع عن محارم الله تعالى والخشية منه، إذ هذه الصفة الاكتسابية تمثل قبس النور في دروب الحياة وتنعكس على تصرفاتنا ومواقفنا وعلاقتنا التي تتأطر بإطار محاسبة النفس قبل الإقدام على أية كلمة أو خطوة، فالتدين الحقيقي لا يقتصر على صورة العبادة وتحويلها إلى عادات تستوحش النفس من تركها، فتكون خاوية من أي مكتسبات فلا تشكل رادعًا للنفس من الاستجابة لفعل المنكرات والتدني للمحرمات، بل العبادة التزام بمحراب الطاعة ونتائج تنعكس على النفس والجوارح تصطبغ بتلك المضامين والقيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى