الوسامة في ديوان الوسمي “على عتبات الضوء”

إبراهيم بوخمسين
تكمن الوسامة في هذا الديوان من عنوانه وترتيب أبوابه وجمال قصائده.
فالحرف “على” يفيد الاستعلاء واستخدامه هنا حسي لأن الضوء ليس له ظهر، وهناك استعمالات أخرى له كالاستعمال المعنوي والاستعمال الظرفي. والعتبة هي المرقاة وبداية السلم أو البداية لدخول الباب، كما تشير إلى ذلك صورة الغلاف. والضوء معروف. فكأن الشاعر يوحي إلينا أن ديوانه بالرغم من جماله ووسامته إلا أنه باكورة أعماله وأن استعلاءه وتمكنه من شكم لجام الشعر لدليل على الآتي من العطاء.
جمال الترتيب والتبويب: هنا أيضًا وفق الشاعر الوسمي في تبويب ديوانه. فلقد جاء التبويب متناغمًا ومتماشيًا مع العنوان.
عتبة الغزل: كما أن العتبة بداية ومرقاة للشيء فغزلي ليس له حدود وهو كالضوء ينتشر كما تنتشر الشمس في أنحاء المعمورة. وتعرفه قوافي الشعر وبحور الشعر قبل أن يعرفه المحبوب. تعرفه الآفاق والأجواء قبل الأقطار والأنحاء.
أنا ( الوَسميُ ) تعرفُني القوافي … يُرتل عالمي وحيُ الجـــمَالِ
وتعـلُو الشُّـهبُ في فلكِ اعتِلائي … ويرقُبُ موعدي قلبُ الهلالِ
أرى شِـعــري تُــغـازِلُه الــثريا … وتسْـألني متى يَــومُ الوصالِ
ومن فرط وسامة الشعر وجمال بيانه تتلهف الثريا التي إن قلنا مجازًا عن المحبوب فما أجمله من تشبيه وهل هناك أجمل من الثريا، أن يتغزل فيها شاعرنا الوسمي. وإن أخذناها على الحقيقة وليس المجاز، فياله من اختيار موفق إذ ترى الحياة والحركة والحس في هذا المخلوق إذ ينتظر من يتغزل فيه. كذلك الشهب والهلال.
هنا أيضًا صورة جمالية رائعة في قصيدة أنا أهواك. حينما يخاطب محبوبته وهو معتزًّا ومفتخرًا ومتباهيًا بأنه عصاميٌ في الشعر فهو بنى شعره بذاته لأجل أن تسكن محبوبته وَلَهًا وحُبًّا وطمأنينةً وارتياحًا. وكلمة السكن تتضمن كل معاني الراحة، ولقد جاء في الذكر الحكيم: ” ليسكن إليها”.
هذه المحبوبة التي استدعاها لتسكن حصون شعره ليست ككل الناس بل هي شيء آخر، هي الطينة التي خلق الله منها شاعرنا الوسمي.
وهنا منتهى الذوبان في المحبوب بل جعل كيانه المادي والمعنوي كله هيَ:
بنيتُ حصُونَ أشعاري بذاتي … تعالي واسكُني وَلَهًا حُصُوني
فـسبحان الذي سـوّاكِ حُسنًا!! … وقال اللهُ: للـوسميِّ ” كُوني ”
إن ابداع الشاعر يكمن في توظيف وتطويع كل أنواع الشعر…وهذا ما تلمسه في شاعرنا الوسمي…فهو يبرع في شعر التفعيلة ” الشعر الحر ” كما يبرع في الشعر العمودي دون تكلف ولا تصنع.
صورة من الجمال الشعري هنا في قصيدة ” عالَـمٌ فاتِـن”.
هذه المحبوبة التي تختال بجمال عينيها وبريق نظراتها تأسر كل ذي لب فهي لم تأسر الوسمي فقط وتصرعه أرضًا بناظريها ” ما أجمل كلمة بارقها، إشارة إلى جمال لمعان عينيها وتوهجها “، بل أسرت جميع الرجال. تعال معي لنقف على هذه الصور الغزلية الجميلة ولنتخيل أنفسنا مكان الوسمي لنرى ما تفعل بنا هذه الأنثى:
وكم ترمي
بوسْع العينِ رُوحي؟!
وتقـذفـُني بنظرتِها نِبالُ
….
هيَ الأنثى..
وتحكمُ بافـتِـتانٍ
وتهوي عند بارقِها الرجالُ
…
أحاديثُ الهوَى
تحكي هواها
وعن (ليلايَ)
كم قالوا وقالو؟!
…
انا الموسومُ عشقًا
في هواها
ويخضعُ لي بضحكتِها المُحالُ
لن نطيل الاستغراق في عتبة الغزل وإن كانت جميلة وجاذبة لكي لا نسرق متعة قراءة الديوان من القارئ، فهناك قصائد جميلة فيها صور شعرية رائعة وفيها ذوق غزلي رفيع تنبيك عن براعة الشاعر في اختيار المفردات والتشبيهات والمجاز والخيال الشعري.
لقد تضمنت عتبة الغزل ٤٤% من صفحات الديوان، مما يدل على شفافية روح شاعرنا الوسمي وجمالها.
وهنا ليَ وقفة قصيرة، لطالما كان أبو حيدر يتحفني بأبياتٍ غزلية جميلة في الطبيعة والمحبوبة وفي غيرها من الأغراض الشعرية وكنت أعلق عليها بالثناء الجميل والإعجاب وكان يبادلني الثناء والشكر مما يدل على قلبه الجميل الذي يحتوي الجميع.
عتبة الرثاء:
كما يكمن الجمال في اظهار الفرح والسرور كذلك يكمن في اظهار الحزن واللوعة والأسى على فراق الأحبة، مما يؤدي بالنتيجة بذكر صفات المرثي وبعطائه والتغني بإنجازاته وسيرته العطرة. شاعرنا الوسمي لم يكن بدعًا من الشعراء، فهو كما برع في عتبة الغزل كذلك بدع في عتبة الرثاء…وكما قلنا في مقدمة القراءة أن معنى العتبة هي المرقاة والدخول إلى أفق اوسع وأجمل. هذا ما لمسته في براعة قصائد الرثاء وجمالها في هذه العتبة. لقد قرأت قصائد رثاء جميلة جدًّا وموفقة للشاعر الوسمي بعد طباعة هذا الديوان، وهذا دليل واضح على تألق شاعرنا ورقيه وتطور قريحة الشعر لديه.
يكفي أن تعطي شاعرنا الوسمي سيرة عن شخصية من الشخصيات وإن بعدت عنه عقودًا من السنين ليخرج منها بمرثية ذات صور شعرية جميلة جدًّا. هذا ما عايشناه شخصيًّا مع الشاعر الوسمي حينما طلبنا منه المشاركة في حفل الشيخ العلامة الشيخ باقر بوخمسين بمناسبة مرور ٣٠ سنة على رحيله. لم يبخل علينا الوسمي بل شارك بقصيدة جميلة في العنوان وحلوة في البيان:
باقر الإشراق: في سيرة العلامة الشيخ باقر بوخمسين قدس سره عالمًا وفقيهًا وأديبًا.
مَا زِلـــت تـَبـعـثُ في الـدُّنَا الأضـوَاءَ … والشمسُ تحرزُ باسْمِكَ العَلياءَ
يا باقـِـرَ الإشـــراقِ.. نـبـعـُــكَ أنجُـــمٌ … تَــزهُو وتكْــتسِحُ الظّلامَ بهـاءَ
يا ابنَ الأكارمِ وابنَ ” مُوسى” والعُلى … أشـرَقــتَ شمْسًا أحْيـَـتِ الآباءَ
وأبًا بــعـطـفِـك كُـنـت تـغــدِقُ حـانــيًا … ولك العَـمَائـمُ أضـحتِ الأبـناءَ
وبَـذلــــتَ عُـمْـرَكَ للعــلـوم وللــتّــقى … ما راحَ إرثُك في الزّمانَ هباءَ
لا أخال بيتًا من بيوت أهالي الأحساء لم يتفجع برحيل صاحب الرسالة العظمى سماحة الشيخ عيسى الحبارة رحمة الله عليه في يوم فقده الأليم.
هذا العالم الشيخ ولج إلى قلوب الآلاف من المؤمنين والمؤمنات. كان حقًّا على الشعراء والأدباء أن ينبروا لرثائه وتأبينه. شاعرنا الجميل أبو حيدر يرسل ” حمم الشجى ” قصيدة لتسطر في ديوان العرب قبل أن تسطر في عتبات الضوء. قصيدة وُفـِقَـتْ في جمال القافية والمعنى والصورة:
” عِيسى “.. ويَبزُغُ في كَيانِكَ “عِيسى” … وصَــدَى حـــدِيــثـكَ يلهـم التّقدِيـسا
كـلمَـاتـُك الحُــبْـلى بـهـــديـِكَ كــوْثـرٌ … وتُـعــيـدُ للــدُّنــيَا مـعَاجِــزَ “مُوسـى”
أنــــتَ الــمُـجــلَّــلُ بالــمَـآثِــرِ قـُـدوَةً … وبـَعـثـتَ من وحي الهـدى “إدريـسا”
لكَ صُــورة ٌعــكَـسَــتْ مـلامِحً أحمدٍ … وبكَ الــسّجــايا.. حطّمتْ ” إبـليسا ”
ومَــلأتَ دُنـْـيـانَا العـصِــيّةَ بالــتُّـــقَى … وأضأتَ فِكرَك في الدُّجى ” فانـوسا”
قـــد صَـاغـَـكَ الـقُــدُّوسُ تُــحـفـةَ آيِهِ … وإلــــيه رُحـــــتَ مُـعـظّــما قَــديسا
اقتباس موقف من الكتاب الكريم في هذه القصيدة الجميلة لأربعة أنبياء بسجاياهم وأخلاقهم ومعاجزهم فالكلمات: (كيانك عيسى.. معاجز موسى.. الهدى إدريسا…ملامح أحمد) أضفت حركة وحياة خالدة لهذه القصيدة.
كما كان التوفيق في مطلع القصيدة بالاقتباسات الجميلة، جاء الختام بصيغة ” فعيل للمبالغة لهذا العبد الصالح الشيخ ” عيسى ” بالصلاح والطهارة باستخدام صفة القديس.
عتبة الإخوانيات: في العتبة الثالثة وهي عتبة الإخوانيات والمناسبات نرى جمال الشاعر في توظيف هذا النوع من أدب الإخوانيات باعتباره فنًّا بارزًا، له خصائصه الفارقة التي تميزه عن الألوان الأدبية الأخرى، تشترك معه في اعتمادها على التواصل والتبادل. وتهدف إلى مدّ أواصر الصداقة وتوطيدها بين الأهل والأصدقاء والأدباء والشعراء، إلى جانب كشفها للطاقات الإبداعية التي يحشدها الشاعر لإثبات إتقانه للمحاورات والمناظرات أمام الآخرين.
ما أجمل أن تفتح هذه العتبة بإخوانية لأقرب الأرحام وهي الأم. هذا ما فعله الوسمي، ملبيًّا نداء حديث من أحق الناس بحسن الصحبة يا رسول الله: قال أمك.
في قصيدة ” أمي ” أنشودتي التي لا تخبو أبدًا:
أمّي وأنــــتِ جِـنـَانُ الله عَظّمَها … بالفـضـلِ والحبِّ والإجلالِ والقَدرِ
سـِـر خَــفيٌ منَ الأسرار والـدتي … قد خَـصَّك اللهُ حُبَّ الصفوةِ الغُررِ
بدمعةٍ مِنكِ تخبُو النارُ وانكشَفـِتْ … مِن عِطفِ قلبِكِ دوماً لوعَةُ الكَـدَرِ
هنا اقتباس جميل لحديث ” الجنة تحت أقدام الأمهات، وتأصيلًا لهذا المعنى بالشعر.
هناك جمال آخر لقصائد الإخوانيات وهي إخوانيات الأصدقاء إذ أنها تعزز روح الأواصر بين الأصحاب والأصدقاء، بل تمتد إلى العشيرة والقرية. هذا ما رام إليه شاعرنا الجميل ناصر وهي لفتة جميلة منه. جاءت هذه اللفتة في قصيدة خَطِيبٌ بثوبِ البهَاء في جناب الشيخ علي الحجّي:
أنـتَ الخطِـيبُ الشاعِــرُ الـفَـــذُّ الــذي … أهــدَى مَعِــينَ الحُـبِّ للشّـعَـرَاءِ
بـيـن القُـرَى قــد كُـنتَ ريِفَ حُـقُـولِـنا … تـَـنْسابُ نَبــعًا من عـُيُون الـمَاءِ
” الجَرنُ” و” الطَّرفُ” العَزِيزةُ أُختُها … يحـلُوَ هَـوى السَّمْراءِ والشقْـراءِ
هَـذاَ انــتـِـمــاؤكِ لـلجــمــالِ مُــقــدّسٌ … مثلَ انــتِــمَاء النّـخْلِ ” للأحسَاءِ”
انظر كيف وظف الوسمي هذه الإخوانية ليرقى بعتبة الصحبة والمحبة والصداقة من النطاق الضيق الفردي إلى النطاق الأوسع ” الجرن” والطرف”.
عتبة البلدان:
وسامة هذه العتبة تنطلق من عدة عوامل:
– عامل حب الوطن من الإيمان
– عامل الانطلاق إلى العلاقات الشاملة
– عامل الولاء للوطن
كما قلنا سابقًا نكرره لاحقًا في هذه العتبة ينطلق الشاعر من الحب المحدود إلى الحب غير المحدود. من حب الوطن إلى حب البلدان، لذا نرى الشاعر لا يقتصر على وطنه فقط بل يتعداه إلى دول الخليج بل إلى الدول العربية الأخرى “يا أيها الناس إناخَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.
وطني: المملكة العربية السعودية
وطني تألَّقَ
في تخوم الدُّنيا
ورُبَاهُ خُلدٌ
عشْتُ فيهِ وأحيا
…
وطني أطيرُ بشأوِهِ
نحو الذُّرَى
وبرملِهِ النبويِّ أهوى المشيا
…
هي موطني
وأنَا بغيرِ ترابِها مُتشردٌ
في البُعد أرعى النّفيا
وفي قصيدة الكويت يتغنى الشاعر بهذه الأبيات:
فهذي الكويتُ ربيعُ الوجُود … فيَا أيُّها المَجْدُ.. عَـرِّجْ هُـنا
فهذي الكُويتُ التي تـزْدهي … بِحُسْنٍ، وفـيها يزُولُ العَــنا
– ومن قصيدة على ضفاف نهر النيل تنساب هذه الأبيات الرقراقة:
مِصـر الجَمـالِ لكِ الأشـواقُ تندلقُ… ” نيـلاً “، وكُلُ جَـمالٍ منكِ يـنْدفِـقُ
وأنتِ ” يوسفُ” حُسْنٍ مَنْ لهُ مُهجٌ…أضْحَتْ ” زُليخةَ” بالأشواقِ تحترِقُ
بـنيـْتِ في الروحِ أهْـراماً مُـشيــدةً… تغَــارُ مِنْها السّما، والـنّجـْمُ والأفُـقُ
توظيف الاقتباسات في هذه الأبيات الجميلة تجعل القصيدة ذات حياة متحركة فيها وفي قارئها.
تجد في هذه العتبات:
وسامة الشاعر
وسامة القصيدة
وسامة الجملة
وسامة الكلمة
وسامة التشبيه
وسامة الاقتباس
وسامة المعنى
وسامة الصفة
في هذه العتبات أضواء جميلة اتحفنا بها الشاعر الجميل أبو حيدر ناصر الوسمي.
كلي ثقة بأن الشاعر يمتح من عين شعر صافية ولم يخرج ما في جعبته من فنون وأغراض الشعر….نتمنى له دوم الألق ومزيدا من الإصدارات.