أقلام

رحلة المعرفة: من الشك إلى اليقين

أحمد الطويل

تنويه: هذه المقالة هي المحطة الأولى من سلسلة فكرية أسبوعية، مستفادة من الجزء الثاني من كتاب (مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية) للأستاذ محمد حسين زاده (ترجمة سيد حيدر الحسيني). في هذه السلسلة نسافر معًا في رحلة البحث عن الحقيقة: من تعدد القراءات والهرمنيوطيقا الغربية، إلى التعددية الدينية، ثم إلى المشروعية والنجاة في الإسلام. كل محطة تحمل أسئلة مشوّقة، وإجابات قرآنية وعقلية تفتح الأفق نحو اليقين.

مقدمة:

حين يشتعل السؤال في قلب الإنسان.

تخيّل إنسانًا في لحظة صفاء، يجلس وحيدًا تحت سماء الليل، والنجوم ترسم فوقه أسئلة معلقة: هل ديني هو الحق؟ هل طريقي هو المستقيم، أم أن هناك طرقًا أخرى توصِل إلى الله؟ هذه اللحظة ليست غريبة، بل هي جزء من طبيعة الإنسان الباحث عن الحقيقة.

القرآن يصوّر هذا المفترق الخطير حين يقول: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]. المعادلة واضحة: الحق واحد، والباطل كثير، وما إن يزيغ الإنسان عنه حتى يتخبط في متاهات الضياع.

القراءات المتعددة: زينة فكرية أم هاوية؟

في عصرنا يعلو صوت يدعو إلى ما يسمّى “تعدد القراءات”، حيث يُفتح الباب لكل شخص ليفسر النصوص الدينية كما يشاء. يبدو الكلام جميلًا ومغريًا، كأنه حرية فكرية بلا حدود، لكن الحقيقة أن هذه الدعوة تحمل في طياتها بذور الفوضى.

تأمل لو أن القوانين والدساتير تُقرأ بهذه الطريقة: كل مواطن يفسر القانون على هواه، ثم يطالب الآخرين باحترام فهمه! أي عدل يبقى؟ وأي نظام يصمد؟ كذلك الدين، إذا تُرك بلا ضابط، تحوّل إلى أهواء متضاربة، كل فريق يصنع له دينًا على مقاسه.

هنا يأتي القرآن ليحسم الأمر: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].

الهرمنيوطيقا: من النص إلى القارئ

الغرب عاش جدلًا طويلًا حول التأويل في ما يُعرف بالهرمنيوطيقا. في البداية كان النص هو السيد؛ يُفهم كما هو، وكأن المعنى ثابت ينتظر من يكتشفه. ثم جاء الرومانسيون ليقولوا: المعنى يُدرك بمحاولة الدخول في ذهن المؤلف وفهم نواياه. وأخيرًا، مع الفلسفة الحديثة، انقلبت المعادلة رأسًا على عقب: لم يعد النص ولا المؤلف مهمين، بل القارئ نفسه هو الذي يصنع المعنى!

بهذا تحولت الحقيقة من كيان ثابت إلى أشباح متعددة. صار لكل قارئ “حقيقة” تخصه. هذه النسبية، وإن بدت براقة، كانت أشبه بمرآة مكسورة: كل جزء يعكس صورة مشوهة، لكن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة.

أما الإسلام فرفض هذه الفوضى، وأكد أن النص القرآني محكم وواضح: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]. الحقيقة هنا ليست لعبة بين يدي القراء، بل صراط مستقيم واحد.

درس من التاريخ المسيحية بين النص والتحريف

يكشف لنا التاريخ درسًا صارخًا. فبعد رفع المسيح عليه السلام، دخلت المسيحية في دوامة “القراءات المتعددة”. فُتح الباب أمام التأويلات بلا ضابط، حتى ظهر من قال بألوهية المسيح، ومن رفع شعار التثليث، ومن حاول التمسك بالتوحيد.

النتيجة كانت انقسامًا مريرًا، وانحرافًا عن رسالة التوحيد الأصلية. لو كان “كل تفسير صحيحًا”، لما وجد التحريف أصلًا، لكن القرآن صرّح: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة: 73].

إذن، الحرية المطلقة في التفسير ليست نعمة، بل نقمة تقود إلى الانحراف الجماعي.

العقل والقرآن: جناحان نحو اليقين

وسط هذا الصخب، يظهر الإسلام بنموذجه الفريد. لم يغلق باب العقل كما فعلت الكنيسة، ولم يتركه هائمًا بلا قيد كما فعلت الفلسفة الغربية، بل جمع بين العقل والنص في تكامل مدهش.

القرآن يوقظ العقول بالسؤال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، ويحدد دور النص بأنه مرشد وموجّه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].

وقد لخّص الإمام الصادق عليه السلام هذه العلاقة بقوله: “إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وهي الرسل والأنبياء والأئمة، وحجة باطنة وهي العقول” [الكافي، ج1، ص16].

بهذا يصبح المؤمن كمن يطير بجناحين: العقل يقوده إلى باب الحق، والوحي يفتح له الباب.

الخلاصة:

تخيّل نفسك تسير في وادٍ ضبابي، كل ظل فيه يبدو طريقًا، وكل صوت يصرّ بأن كل تفسير صحيح. في البداية، يسيطر عليك الشك، وتضيع بين الأوهام، غير قادر على التمييز بين الحق والباطل.

ثم تسمع همسة العقل: “قف، فكر، وابحث عن الحق”. هنا يشرق القرآن كشمس تزيل الغيوم، توضح الطريق وتكشف أن الحق واحد، وأن كل طريق آخر قد يكون متاهة بلا مخرج. شيئًا فشيئًا، يتلاشى الضباب، وتستعيد بصيرتك وتستقر خطواتك.

تدرك أن الطريق لا يقوم فقط على النص أو التأويلات الحرة، بل على جناحين متوازنين: العقل الذي يحلل، والوحي الذي يهدينا. بهذا التوازن، يصبح الباحث عن الحقيقة كمن يحلّق فوق الجبال، يرى الأرض بوضوح، ويشعر بنسيم اليقين على وجهه.

الشك ليس نهاية الطريق، بل شرارة البداية. أما اليقين فهو النور الذي يرسخ في القلوب. وحده الإسلام جمع بين الاثنين: عقل مكرّم، ووحي محفوظ، وصراط مستقيم.

لكن تمهّل… الرحلة لم تنتهِ بعد! في المقالة القادمة، سنواجه السؤال الأخطر: هل كل الأديان طرق صحيحة إلى الله؟ أم أن الحق محصور في الإسلام؟ هذه هي معركة “التعددية الدينية”، المعركة الفكرية الكبرى في عصرنا.

اللهم أرنا الحق حقًا فنتبعه، وأرنا الباطل باطلًا فنجتنبه. اللهم اجعل عقولنا منفتحة على نور كتابك، وقلوبنا متمسكة بولايتك، وأعمالنا خالصة لوجهك، واحشرنا مع محمد وآل محمد الطاهرين.

المصادر والهوامش

1. القرآن الكريم، سورة يونس، الآية 32.

2. القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 153.

3. القرآن الكريم، سورة هود، الآية 1.

4. القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 73.

5. القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 44.

6. القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 9.

7. الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص16.

8. محمد حسين زاده، مدخل في نظرية المعرفة وأسس المعرفة الدينية، ترجمة سيد حيدر الحسيني، دار الهدى.

9. Hans-Georg Gadamer, Truth and Method.

10. Friedrich Schleiermacher, Hermeneutics and Criticism.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى