“مع الخيل يا شقرا” رحلة في دهاليز الانقياد والمصالح

عماد آل عبيدان
في زحام الحياة، هناك لحظات تستوقفنا دون استئذان مواقف تلمع كبرق خاطف يكشف المستور ويعري الحقيقة، فلا يعود التلون نافعًا ولا الأقنعة قادرة على الصمود.
وكأن المواقف تقول لنا هامسة: “افتحوا عيونكم، ها هم الذين كانوا يرقصون على كل دف، ويصفقون لكل منتصر، مهما كان لون رايته أو سواد قلبه.”
هنا تبدأ الحكاية حكاية أولئك الذين يعيشون بشعار واحد: “مع الخيل يا شقرا”
“مع الخيل يا شقرا”… مثل عربي قديم، ظاهره طرافة وبساطة، وباطنه فلسفة اجتماعية عميقة لا تُدرَّس في الجامعات، بل تتعلم في مدرسة المواقف الكبرى.
فهو مثل قادم من عمق البداوة، حيث كانت “شقرا” حصانًا لا تحسن الكر ولا الفر، ولكنها اتبعت القطيع فقط لأنها كانت مع الخيل!
ولعل كل عصر له “شقرا”، وله أناس لا يحسنون تمييز الحق من الباطل، بل لا يريدون ذلك أصلًا، هم فقط يركضون وراء الجماعة، يُطبّلون مع الطبالين، ويُصفّقون حتى تتورم أكفهم للمنتصر، أيًّا كان المنتصر.
بربك، هل هناك مشهد أظرف وأبكى من رجل أو امرأة، ينتقلون بين الولاءات كما ينتقل الصرصار المرتبك بين أنوار المطبخ ليلًا؟
إنهم يشبهون كثيرًا ذاك الخفاش الذي تحدّثت عنه أيها الصديق العزيز، حائرًا بين الطيور والحيوانات… في الحرب الأولى صفّق للطيور، وفي الحرب الثانية هتف للحيوانات، وعندما تصالح الفريقان، نصب نفسه شاعر الصلح العظيم!
لم يكن يهمه منطق، ولا مبادئ، ولا شجاعة، ولا عدل… كان فقط يريد أن يكون مع “الغالب”، لا مع “الحق”، مع “المصلحة”، لا مع “الكرامة”.
تخيل أن تسير الحياة كلها تحت شعار:
“ لستُ مع الحق أو الباطل أنا مع من يغلب!”
كم من أبواب أُغلقت في وجه المبدعين الحقيقيين لأنهم رفضوا أن يكونوا “شقراء الخيول”، وكم من مهرجين تصدروا المشهد فقط لأنهم ركبوا مع الخيل دون أدنى موهبة أو موقف!
هؤلاء يا صاحبي، لا يشغلون عقولهم، بل يلبسونها قبعة “اتبع من غلب”.
يبررون لأنفسهم الخيانة بأنها “حكمة”، والنفاق بأنه “كياسة”، والتذبذب بأنه “براغماتية” أو “العملية الواقعية “، والحق يُقال: كلهم خفافيش متنكرة، لا تستحق أن تطير مع العصافير ولا أن تمشي مع الوحوش.
دعنا نتوقف هنا قليلًا مع مشهد آخر:
في كل مجلس، تجد ذاك الشخص الذي يملك سرعة فائقة في تغيير موقفه مع تغير نبرة المتحدث.
إن تكلم الأول عن الطيور، صاح: “أقسم أن الطيور هم النبلاء!”
وإن تكلم الثاني عن الحيوانات، صاح: “أي شرف أرفع من أن تكون ابن الغابة؟”
ولو أتى ثالث ليمدح الضفادع، لا تتعجب إن وجدته ينعق: “آه… بل الضفادع هي أسياد المجد الحقيقي!”
هؤلاء لا يسيرون خلف قناعة، بل خلف موجة.
لو قلت لهم: “قفوا مع الحق”، لبحثوا عن أكثر الحقوق قوةً لا أكثرها صدقاً.
ولو طلبت منهم رأيًا، لأعطوك عشرين رأيًا يناقض بعضه بعضًا، فقط لأنهم يخافون أن يخسروا ودّ أحد.
إنهم ببساطة: “مع الخيل يا شقرا”.
وهنا يظهر معدن الأصيل الحقيقي:
الذين يقفون مع الحق، حتى لو وقفوا وحدهم.
الذين لا تغيرهم الغلبة، ولا تغريهم اللحظة، ولا يخدعون أنفسهم بأن الراقص مع القطيع نجا من البلادة.
هؤلاء قليلون كالألماس وسط ركام من الزجاج المقلد.
صامدون كجبل صلد حين تهب رياح المصالح وتدوس الخيول على الرمال.
ومضة واقعية أخيرة:
في عالمنا اليوم، نحتاج إلى أن نربي أنفسنا وأبناءنا ألا يكونوا خفافيش بين الطيور والحيوانات.
نحتاج إلى أن نقول لأولئك الذين يسيرون خلف الغلبة دون وعي:
“ قف، فكّر، راجع، لا تكن تابعًا دون عقل، ولا داعيًا دون ضمير.”
فالكرامة أغلى من التصفيق، والصدق أعظم من المصلحة، والحق أنبل من الركض خلف الفائزين.
وختامًا:
لنكن ممن إذا رأى “الخيل” ترك لها ساحتها، وسار على خطاه الخاصة.
فلن تكون “شقراء” بأفضل حال إذا ما ركضت مع الخيل، ولا أنت ستكون بخير إن عشت مقلدًا دون روح.
ففي زمن المطبلين والهمج الرعاة، كن أنت الصادق، وإن مشيت وحدك!