الحكمة الإلهية في توزيع الأرزاق: بين الكرم المطلق والاختبار العميق

أحمد الطويل
مقدمة:
في عالم مليء بالتفاوتات، حيث تتعالى ناطحات السحاب بجوار الأكواخ، وتُرصّ أرغفة الذهب بجانب بطون جائعة، يبرز سؤال يُحرق القلوب: لماذا لا يُرزق الجميع بالسَّعة؟ أين كرم الله، وأين رحمته التي وسعت كل شيء؟
هذا السؤال ليس مجرّد تأمل فلسفي، بل هو صرخة وجودية تنطلق من أفواه المساكين، وهم يحدّقون في السماء بحثًا عن عدالة الخالق. لكن مهلًا! هل الرزق المادي هو المعيار الوحيد لرحمة الله؟ وهل الفقر دائمًا نقمة؟ لنغُص معًا في عمق الحكمة الإلهية، بعين العقل، ونور الوحي، وتجارب الأنبياء والأئمة العظام.
الرحمة الإلهية أعظم من الظاهر:
القرآن يعلنها بوضوح ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156).
ولكن هذه الرحمة لا تُقاس بعدد الدنانير، بل بعمق الأثر على النفس والروح. فكم من غني طغى، وكم من فقير رقى!
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا عِبَادَهُ…»
فالفقر قد يكون بابًا إلى الجنة، والغنى قد يُغلق دونها، إن لم يُسخّر في سبيل الحق.
الكرم الإلهي ليس عشوائيًا بل مدروس بعناية إلهية:
الله كريم، نعم، بل هو أكرم الأكرمين: ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40).
لكن من كمال كرمه، أنه لا يُغرقنا بما يفسدنا. تأمل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ (الشورى: 27).
أرأيت؟ لو أعطى الله الجميع دون حساب، لتحوّلت الأرض إلى ساحة طغيان. فمن رحمته أن يمنع عنك ما يضرك، ويعطيك ما يُصلحك، وإن لم تفهمه الآن.
الرزق اختبار مزدوج لا تمييز:
قال الإمام علي عليه السلام: «قَسَّمَ الأَرْزَاقَ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالْعَدْلِ، لِيَبْتَلِيَ الْغَنِيَّ بِالْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرَ بِالْغَنِيِّ».
الرزق ليس وسام شرف، بل مسؤولية.
الغني يُمتحن: هل سينفق؟ هل سيتواضع؟
والفقير يُبتلى: هل يصبر؟ هل يسعى دون يأس؟
وفي النهاية، كلهم أمام رب واحد، لا يميزهم ما في الجيوب، بل ما في القلوب.
أمثلة حية من حياة العظماء:
النبي أيوب عليه السلام: من أغنى الناس، ثم من أفقرهم، ولكنه لم يتزحزح عن عبوديته.
النبي محمد صلى الله عليه وآله: مات ودرعه مرهونة! سيد الخلق كان زاهدًا، ينام على الحصير.
الإمام علي عليه السلام: كان يوزع بيت المال حتى لا يترك درهمًا، ويلبس أخشن الثياب.
أبو ذر الغفاري: رفض كنوز معاوية واختار الصحراء، لأنه آمن أن الغنى الحقيقي في الزهد.
هؤلاء لم يكونوا محرومين، بل كانوا أحرارًا. تحرروا من عبودية المال، فعاشوا بعزّ وكرامة.
الدنيا مزرعة، لا قصر دائم:
قال الله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 34-35).
أما هنا؟ فهنا عملٌ وابتلاء. الغني لن يبقى غنيًا إلى الأبد، والفقير لن يُبعث فقيرًا. الميزان هناك هو التقوى، لا الأرصدة.
فلسفة التفاوت: تكامل لا تفضيل:
قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ (الزخرف: 32).
لتقوم الحياة، لا بد من تنوع: طبيب، عامل، مهندس، فلاح، معلم…
لو تساوى الناس جميعًا، لتعطّلت الحركة، وتوقف التبادل، وانتهى معنى “الرحمة المتبادلة”.
أن تكون قنوعًا أغنى من أن تكون غنيًا!
ليس الغنى في كثرة المال، بل في قناعة القلب.
قال الإمام الصادق عليه السلام: “القناعة كنز لا يفنى”.
وقال أمير المؤمنين: “القناعة مال لا ينفد”.
الخلاصة:
الرزق بيد الله وحده، وهو أدرى بما يصلحنا. وما الفقر ولا الغنى إلا ألوان في لوحة الاختبار. الأنبياء والأولياء لم يسعوا إلى الترف، بل إلى الرضا واليقين. فلنتعامل مع أرزاقنا بوعي، ونحوّل السؤال من “لماذا لا أملك؟” إلى “ماذا سأفعل بما أُعطيت؟”.
ومن فهم الرزق بهذا المنظار، عاش غني القلب، عزيز النفس، قريبًا من الله مهما كان في يده من متاع.
اللهم اجعلنا من القانعين برزقك، الصابرين في بلائك، الشاكرين لنعمائك، الراضين بقضائك، الساعين فيما قسمته لنا دون طمعٍ أو تذمر، واجعل أرزاقنا وسيلةً لرضوانك لا لغفلتنا، وأعنا على أن نكون من المنفقين في سبيلك إذا أغنيتنا، ومن الصابرين المحتسبين إذا ابتليتنا، إنك أرحم الراحمين.