الفصل الرابع: الحساء مفتاح اللغز

إبراهيم الرمضان
في غرفة الكنترول بأحد أفخم الفنادق في البلاد، كان رجلا حراسات أمنية يراقبان الشاشات التي تعرض الأماكن الهامة في الفندق، مثل صالة الاستقبال، قاعة الطعام، المطبخ، والممرات، بوجود مسؤول تقني يشرف على تشغيل تلك الشاشات، صوت طنين الأجهزة الإلكترونية يملأ الغرفة، ممزوجًا بأزيز مكيف الهواء الذي يعمل دون توقف، بينما كانت رائحة القهوة الباردة تفوح من أكواب بلاستيكية مهملة على الطاولة.
على إحدى الشاشات، ظهر رجل عجوز ببشرة سمراء، ذو لحية كثيفة ورأس أصلع عدا محيطه، وهو يقترب متثاقلًا نحو باب الغرفة متكئًا على عصاه. تبادل الحراس نظرات متململة، وكأنهم اعتادوا هذا المشهد حتى بات جزءًا من روتينهم اليومي.
أحدهم تنهد بإحباط وهو يعدّل من جلسته المتكاسلة، بينما الآخر تمتم ساخرًا:
– ها قد عاد مصدر إزعاجنا اليومي!
دفع العجوز الباب بقوة، ولوح بعصاه بغضب وهو يصرخ:
– حسائي! كم مرة أقول لكم هاتوا حسائي!
تنهّد أحد الحراس وردّ بامتعاض:
– ونحن كم مرة قلنا لك يا عمي أن هذه غرفة كنترول، وليست المطبخ؟!
ولكن العجوز لم يكترث، وواصل الصياح والتلويح بعصاه، حتى تحرك موظف الكنترول وقال مستسلمًا:
– حسنًا حسنًا، سأحضر لك الحساء كالعادة، والله المستعان!
خرج الموظف تاركًا الرجل العجوز مع الحراس، وقد بات وضعه مألوفًا لديهم منذ عشرة أيام. في كل مرة يأتي إلى الفندق، يقتحم غرفة الكنترول مطالبًا بحساء الشوفان بالخضار، حتى حفظوا طلبه عن ظهر قلب!
نظر أحد الحراس إليه بتردد، ثم سأله بلطف:
– أرجو أنك بخير يا عمي، ولكن عندي سؤال… ألا يوجد أحد من أبنائك أو أحفادك يأتي معك إلى الفندق ليساعدك؟
احمرّ وجه العجوز غضبًا، وصاح ملوحًا بعصاه:
– ماذا تقصد؟؟!! أتعني أنني أصبحت عجوزًا خرفًا وأحتاج لمساعدة الآخرين؟!
تدخل الحارس الثاني محاولًا تهدئته:
– لا لا، ليس هذا ما يقصده، عقلك ما شاء الله لا يزال نشيطًا، ولكنه يخشى على صحتك نظرًا لسنك وصعوبة الحركة لديك.
لكن العجوز ازداد غضبًا ورفع عصاه مهددًا:
– إخرس، صحتي أفضل منكم جميعًا! وسترون هذا بأعينكم!
وباغتهم فجأة بضربتين على رأسيهما، أطاح بهما أرضًا! ثم وجه ضربات قوية إلى أجهزة الكنترول، وصار يشد الأسلاك بعصاه حتى انقطعت، فاشتغلت أجراس الإنذار في الفندق!
قفز الحارسان على قدميهما وحاولا الإمساك به لتهدئته، ولكن العجوز كان في نوبة غضبٍ عارمة، يضرب كل شيء بعصاه وكأنه في معركة حامية.
دخل موظف الكنترول سريعًا، ووضع طبق الحساء جانبًا ليساعد زميليه على تهدئة الرجل العجوز وإجلاسه على الكرسي. وبعد لحظات، اندفع إلى الغرفة صاحب الفندق، الشيخ أبو مشاري، يتبعه حارسه الشخصي، وجهه مكفهرّ من الغضب وهو يسأل:
– ما الذي يحدث هنا؟! لماذا صوت الإنذار؟ ومن هذا العجوز؟!
شرح له الحراس الموقف، ليضرب أبو مشاري الأرض بعصاه بعصبية:
– أيها الأغبياء! سمحتم لهذا العجوز بأن يجعل من غرفة الكنترول مكان استجمام؟! منذ عشرة أيام؟!! هل يحسب نفسه بجزيرة هاواي يحتسي حليب جوز الهند تحت أشعة الشمس؟! أخرجوه فورًا، ولا أريد أن أراه هنا مجددًا!
أمسك الحارسان بالعجوز، اعتذرا له بخجل وهما يقودانه إلى مدخل الفندق، ثم تركاه هناك. جلس العجوز على أحد الكراسي لفترة، قبل أن تتوقف أمامه سيارة نقل بغمارتين، فنهض متثاقلًا وركب فيها.
وبمجرد أن ابتعدت السيارة عن الفندق مسافة كافية، ارتسمت على وجه العجوز ابتسامة شخص منتصر، ثم التفت إلى السائق قائلًا:
– ها… ما رأيك بأدائي اليوم؟
ضحك السائق وهزّ رأسه بإعجاب:
– أبدعت يا خالد! المهمة تكللت بالنجاح أخيرًا.
ثم بدأ خالد في إزالة الشعر واللحية المستعارين، وهو يتنفس الصعداء قائلًا:
– آه يا فهد… ليتك رأيته! أصبت بالذعر عندما شاهدت وجه أبو مشاري الغاضب عن قرب!! شعرت للحظة أنه سيبتلع الفندق بمن فيه!
فهد (متجاهلًا حديثه، بنبرة جدية):
– دعك منه! علينا الآن أن نفرز ما سرقناه ونرى ما لدينا.
عندما وصلا إلى مخبئهما السري، قاما بإنزال كيسين كبيرين من حوض السيارة إلى الداخل، وضعهما فهد فوق الطاولة، ثم التفت إلى خالد:
– افتح الأول، لنرى ماذا حصلنا عليه.
فتح خالد الكيس الأول، وفجأة… كاد أن يغمى عليه من الصدمة! عُلب مليئة بحزم من العملات الورقية من فئة 100، كمية هائلة منها كانت مكدّسة وكأنها كنز لا ينضب! عينيه اتسعتا وكاد أن يقفز فرحًا، قبل أن يصفعه فهد على كتفه وهو يقطب حاجبيه قائلًا:
– لا تفرح كثيرًا، كلها عملات مزورة.
خالد تجمد للحظة، وكأنه تلقى صفعة نفسية! كان قبل لحظات يتخيل نفسه يعيش حياة الأثرياء، يسكن القصور، يركب السيارات الفارهة، ويمشي بخطوات واثقة بين الخدم والحشم… ولكنه الآن فقط أدرك أنه لم يكن سوى أحمق يحلم!
خالد (بعبارة خائبة):
– ما دمت تعلم ذلك، لماذا سرقتها إذن؟!
فهد (مبتسمًا بثقة):
– لا تتعجل، سنحتاجها حتمًا في وقت لاحق، حتى القمامة قد تكون ذات قيمة إذا عرفت كيف تستخدمها. افتح الكيس الثاني.
فتح خالد الكيس الثاني، ليجد بداخله جهاز حاسب محمول، وجهازين هاتف، وثلاثة أجهزة لاسلكي، وكاميرا رقمية واحدة… وطبق من الحلوى.
خالد (مستغربًا، وهو يرفع طبق الحلوى):
– انتظر لحظة… لماذا سرقت هذا؟!
فهد (ضاحكًا وهو يتكئ على الطاولة):
– سرقت أجهزة إلكترونية ومعدات قد تكون خطيرة، ولم يلفت نظرك سوى طبق الحلوى؟! ركز يا خالد! ولكن بصراحة… وجدته في طريقي وكان شكله مغريًا، رغم أني أشك بأن مأكولات أبو مشاري صالحة للاستهلاك البشري… لا أدري كيف تحملت تناول هذا الذي يسمونه (حساء) طوال 10 أيام! على أي حال، دعني أتذوق قطعة وأحكم بنفسي.
مدّ يده إلى الطبق وتناول قطعة صغيرة، ولكنه فجأة توقف عن المضغ، وبدأت ملامحه تتغير تدريجيًا. وجهه بدا وكأن أمرًا خطيرًا حصل للتو.
خالد (مذعورًا وهو يقترب منه):
– ما بك يا فهد؟! أرجوك، لا تقل لي إنك أصبت بتسمم!
فهد (وهو يهز رأسه ببطء):
– لا، لا تخف… ليس الأمر كذلك.
خالد (وقد زاد قلقه):
– إذن ما الخطب؟! تكلم!
فهد (بعد لحظات صمت، وهو يحدّق في قطعة الحلوى بدهشة):
– هناك شيء غريب بشأن مذاقه… نوعية الطحين، وزنية القرفة، كمية الحليب… هناك شيء غير طبيعي.
خالد (متوجسًا):
– ألهذه الدرجة طعمه مريع؟
فهد (وهو ينظر إليه ببطء):
– لم أقل ذلك، بل العكس… طعمه يفوق الخيال، لذيذ جدًا.
خالد (بعد أن زفر بارتياح، ثم خطف ثلاث قطع دفعة واحدة ووضعها في فمه بسعادة):
– يا رجل! أرعبتني للحظة! عندما رأيت ملامح وجهك، حسبتك ستموت! ولكن… واااااو! هذه الحلوى رائعة!! لم أتذوق شيئًا بهذا المذاق منذ سنوات!
ولكنه لاحظ أن فهد لا يزال متحفظًا، وعيناه تضيقان في شك.
خالد (بفم مليء بالحلوى):
– والآن، هل ستخبرني لماذا أنت مستغرب هكذا؟
فهد (وهو يضع الحلوى جانبًا ويقلبها بين أصابعه بتفكير عميق):
– ليس من عادة المدعو أبو مشاري أن يحضر شيئًا قابلًا للأكل، ولا أن يهتم بجودة الطعام. هذه الحلوى ليست مستوردة، مكوناتها طازجة، ومحضرة بأيدٍ محلية… هذا يعني أنها ليست من صنع طباخيه الأجانب.
نظر إلى خالد، وقال بنبرة جادة:
– وهذا ما يقلقني… هل ابتز أبو مشاري أحد المساكين وجعل إحدى نسائه تعمل تحت أمره وطوعه؟
خالد (وقد بدأ يستوعب خطورة الأمر):
– لحظة لحظة… تقصد أن وراء هذه الحلوى قصة أخرى؟
فهد (وهو ينظر إلى الحلوى نظرة شكّ وريبة):
– لا شيء عند هذا الرجل يأتي دون مقابل… ويبدو أن علينا معرفة القصة الحقيقية خلف هذه الحلوى.
فكر فهد قليلًا، وكأنه يحاول استحضار ذكرى قديمة، ثم فجأة توقف وأشار إلى خالد بيده.
فهد (بجدية مفاجئة):
– خالد، أعطني قطعة أخرى من الحلوى.
تناول قطعة أخرى، بدأ يمضغها ببطء، وعيناه تضيقان وكأنه يحاول فك شفرة غامضة.
خالد (مستغربًا):
– ماذا هناك يا فهد؟ هل لديك استنتاج آخر؟
فهد (ببطء، وهو يفكر بصوت عالٍ):
– ليس استنتاجًا بقدر ما هو إحساس غريب… كأنني تذوقت هذه الحلوى من قبل. لا، ليس فقط الطعم… بل تكنيك إعدادها نفسه مألوف جدًا لدي!
يتوقف للحظة، ثم يضرب الطاولة بيده بخفة كأنه تذكر شيئًا:
– أعادتني للوراء أكثر من 20 سنة… هذه الطريقة في التحضير تشبه تمامًا أسلوب إحدى صديقات والدتي المقربات! كانت تعطيني منها وأنا طفل.
ثم يلتفت ناحية خالد بعينين لامعتين بالحماس:
فهد (بحزم):
– ينبغي علينا العودة مجددًا وتحري الأمر.
خالد (وقد بدا عليه القلق):
– ولكن كيف؟ لا شك أن إجراءاتهم الأمنية قد زادت بعد ما فعلناه، علاوة على أن شخصية العجوز ينبغي أنها قد احترقت، أليس كذلك؟
فهد (مبتسمًا بثقة، وهو يشبك أصابعه ببعضها):
– لا، بل لا تزال ورقة رابحة… فهم لم يشكّوا بك حتى الآن، وهذا كل ما نحتاجه! اسمع، ونفّذ ما سأطلبه منك، لدينا خطة جديدة.
توجه خالد مرة أخرى إلى الفندق، متقمصًا دور العجوز الذي أصبح مصدر إزعاج للحراس، ليقترب بخطوات متثاقلة، متكئًا على عصاه، ملوّحًا بها في الهواء وهو يصرخ:
– حسااااائي! أين حسائي؟! لقد قلت لكم أن تحضروه لي قبل أن أنسى طعمه تمامًا!
بمجرد رؤيته، انتفض رجال الأمن وكأنهم رأوا شبحًا، ثم ركض أحدهم سريعًا ليقطع عليه الطريق قبل أن يصل إلى مدخل الفندق.
الحارس الأول (متنهّدًا بإحباط):
– أوه لا، ليس مجددًا… يا عمي، ألم نتفق أن تبقى بعيدًا عن الفندق؟!
العجوز (خالد) وهو يضرب الأرض بعصاه بانفعال:
– وهل اتفقنا أن تحرموني من حسائي؟! أين هو؟! هل عليّ أن أضربكم مرة أخرى حتى تحضروه لي؟!
الحارس الثاني (بقلق وهو يرمق زميله بنظرة متوترة):
– اهدأ يا عمي، لا داعي لكل هذا! سنحضر لك الحساء… ولكن بعيدًا عن هنا، نعدك بذلك!
العجوز (وهو يرمقهم بحدة مفاجئة):
– تبًا لحسائكم! لقد مللت منه! هذه المرة، لا أريد حساء… بل حلوى!
نظر الحارسان إلى بعضهما البعض بتعجب، ثم استدار أحدهما نحوه وسأله بحذر:
– حلوى؟ ولماذا تريد الحلوى فجأة؟
العجوز (بجدية وشيء من الغطرسة العجائزية):
– سمعت أن هناك حلوى لذيذة تُعد هنا، وأنا لا آكل سوى الحلوى المصنوعة بأيدي محلية! عجوز مثلي يحتاج إلى سكر طبيعي، لا أريد حلويات المصانع التي تُسمّم الجسم!
رفع الحارس الثاني حاجبيه بدهشة، ثم قال وهو يحاول التخلص منه:
– هذه الحلوى ليست للبيع، بل تُحضر لشخصيات خاصة فقط، وليس لأي أحد، يا عمي.
العجوز (بدهشة وهو يضع يده خلف أذنه وكأنه يعاني ضعف السمع):
– أها! إذًا فهي ليست من صنع الأجانب؟ إذن من تلك المرأة التي تعدها؟ لا بد أنها أمهر من أمي عندما كانت شابة!
تردد الحارس الأول، ولكنه تمتم بنبرة ضجرة:
– لا نعرف الكثير عنها، ولكنها ليس امرأة، كل ما نعلمه أنها فتاة صغيرة، تعمل في المطبخ وتعد الحلوى فقط.
العجوز (يحدّق بهما بفضول متزايد):
– فتاة صغيرة؟ غريب جدًا! آه على زماننا، كنا نسرق التمر من نخيل الجيران بدلًا من أن نعمل في المطابخ.
نظر الحارسان إلى بعضهما البعض بحيرة، ثم أحدهما حاول إنهاء الحديث:
– يا عمي، لا دخل لنا بهذه الأمور، والآن، هل تريد الحساء أم لا؟!
العجوز أطلق تنهيدة عميقة ولوّح بيده:
– لا، لا أريد شيئًا! لقد أفسدتم شهيتي… سأذهب قبل أن يطردني أبو مشاري مجددًا!
استدار غاضبًا وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، بينما تبادل الحراس نظرات مرتابة، قبل أن يتنفسوا الصعداء حين رأوه يغادر دون أن يُسبب فوضى إضافية.
عاد خالد إلى المخبأ، حيث كان فهد ينتظره، جالسًا على الطاولة، يتفحص ما تبقى من الحلوى وهو شارد الذهن. دخل خالد متحمسًا:
– فهد! حصلت على معلومات جديدة عن صانعة الحلوى!
رفع فهد رأسه ببطء، ثم قال ببرود:
– لا تقل لي إنك قمت بسرقة طبق جديد من الحلوى، فأنا لم أنتهِ من تحليل هذا الطبق بعد!
خالد (متجاهلًا سخريته):
– إن التي تعد الحلوى كما توقعت أنت ليست أجنبية، ولكن الغريب أنها فتاة صغيرة تعمل في الفندق!
توقف فهد للحظة، كأن عقله بدأ يربط الخيوط ببعضها، ثم تمتم:
– فتاة صغيرة… تحضّر الحلوى بهذه الدقة؟ لا يعقل!
ثم حدق في خالد بجدية:
– هناك شيء غير طبيعي هنا، طريقة إعداد هذه الحلوى لا ينبغي أن تكون من صنع فتاة، بل تبدو كأنها من يد خبيرة محترفة! وماذا بعد؟
خالد:
– لاحظت أن الحراس يتجنبون الحديث عنها أكثر من اللازم، كأن الموضوع سري جدًا. كل ما فهمته أن الحلوى ليست للبيع، بل مخصصة لكبار الشخصيات فقط. ولا يبدو أن لديهم معلومات أكثر عنها.
فهد لم يرد، بل ظل شاردًا، وعيناه تضيقان بشك… شيء ما لا يبدو صحيحًا في هذه القصة. وفجأة، نهض بسرعة قائلًا بحزم:
– علينا أن نعرف من هي تلك الفتاة… ولماذا تعمل هناك… ولماذا حلوى بهذه الجودة، تصنعها فتاة؟!
وقف خالد ببطء:
– انتظر، أتقصد أننا سنعود مجددًا؟!
ابتسم فهد ابتسامة جانبية:
– نعم… لكن هذه المرة، يجب أن نعرف ماذا يحدث في مطبخ أبو مشاري اللعين!
خالد (معترضًا وهو يلوّح بيديه):
– لا تقل بأنني سأعود إليهم مجددًا بشخصية العجوز!! كما تعلم، لم أعد أستطيع حتى الاقتراب من الفندق بعد الذي حدث.
فهد (بهدوء مخيف):
– ومن قال بأنني أريدك أن تدخل الفندق؟
نظر إليه خالد بحيرة، ثم شبك ذراعيه وقال بسخرية:
– حيرتني منك يا فهد، ألم تكن تريد معلومات أكثر عن الفندق؟
فهد (مصصحًا):
– ليس الفندق… بل المطبخ!
خالد (رافعًا حاجبيه بدهشة ساخرة):
– أوه، ما شاء الله! شكرًا على التوضيح!! والمطبخ، كيف أصل إليه يا نابغة؟! أنت تدرك أن الإجراءات الأمنية زادت، بل أصبحت صارمة حتى على الموظفين أنفسهم.
فهد (بابتسامة جانبية وهو يشبك أصابعه ببعضها):
– بالضبط، بما أن هناك تشديدًا على الإجراءات، فسيتم أيضًا تشديد الخناق على الموظفين، مما يعني أنهم سيلجؤون إلى أماكن أقل صرامة وقت استراحتهم… بالتأكيد لديهم مكان سري يتجمعون فيه، بعيدًا عن الكاميرات، عندما يرغبون بالتدخين أو التملص من العمل قليلًا، ولعلهم الآن سيلجؤون له لمآرب أخرى.
خالد (وهو يهز رأسه ببطء وكأنه بدأ يستوعب الفكرة):
– حسنًا، فلنفترض أنني ذهبت إلى مخبئهم السري، ماذا بعد ذلك؟
فهد (وهو يربت على كتف خالد بابتسامة):
– أنت لا عليك، اذهب فقط واستمتع بطبق جديد من حساء الشوفان بالخضار… ولا تسألني أكثر!!
صمت قليلًا، ثم رفع رأسه فجأة وكأنه تذكر شيئًا هامًا.
فهد:
– لحظة، بشأن الكيس الذي أخرجت منه بعض المعدات… كان فيه جهاز حاسب، وهاتف، وجهاز لاسلكي، وكاميرا، ثم توقفت فجأة عندما رأيت طبق الحلوى، أليس كذلك؟
نظر إليه خالد لثانية، ثم قال وهو يفرك ذقنه بتردد:
– بلى، لأنني تعجبت من وجود الحلوى بين كل هذا… بدا لي شيئًا شاذًا وسط المعدات! انتظر لحظة.
أحضر الكيس ووضعه أمام فهد، الذي بدأ يفتش فيه ببطء وعيناه تركزان على شيء محدد، وفجأة، سحب شيئًا معينًا من داخله، ثم رفعه أمام عينيه بتركيز.
فهد (بابتسامة خفيفة):
– نعم … هذا هو، سنحتاجه.
في اليوم التالي، ذهب خالد متنكرًا بشخصية العجوز في الموعد المعتاد، يسير بعصاه متثاقلًا نحو الفندق، قبل أن يصل إلى مدخله بقليل، استوقفه شخص بدا مألوفًا له. حدّق خالد في وجهه، فإذا به أحد أفراد الحراسات الأمنية، ولكنه لم يكن مرتديًا زيه الرسمي.
الحارس (بابتسامة خفيفة):
– أهلًا بك يا عمي، كنت أتوقع مجيئك بأية لحظة.
العجوز خالد وهو يتأمل منظره بشك:
– لماذا أراك هكذا؟ هل تم فصلك من العمل؟
الحارس:
– لا تقلق يا عمي، اليوم إجازتي، ولكن بقية زملائي بانتظارك في مكان آخر. تعال معي، ستعجبك المفاجأة.
اتجه الحارس ومعه العجوز خالد إلى مبنى صغير خلف الفندق مباشرة، بدا وكأنه استُؤجر ليكون ملاذًا سريًا للموظفين خلال أوقات الراحة بعيدًا عن الرقابة، كان المبنى بسيطًا، بجدران إسمنتية رمادية متآكلة قليلًا، وسقف معدني مائل تصدر منه أصوات خافتة كلما هبّت نسمة هواء، دفع الحارس الباب الحديدي الذي طالها الصدأ، فأصدر صريرًا مزعجًا، ليكشف عن غرفة متوسطة الحجم ذات إضاءة خافتة صفراء، تصدر من مصباح عتيق يتدلى من منتصف السقف بسلك رفيع وكأنه مصباح شارع يحتضر. في الزاوية، وُضع ثلاجة خضراء قديمة تصدر طنينًا مستمرًا، بدت وكأنها نجت بأعجوبة من إحدى معارك حرب السادس من أكتوبر!! وعلى أحد الجدران، عُلّقت شاشة تلفاز قديمة تتوسطها خطوط حمراء متقطعة، مما يدل على أنها مكسورة جزئيًا، تعرض برنامجًا تافهًا بالكاد يهتم له أحد.
الحارس (بصوت مرتفع وهو يدخل الغرفة):
– يا شباب، ها قد وصل العم المبجل، أين طبق الحساء؟
وقف الموجودون مرحبين بالعجوز خالد، بعضهم لا يزال بزي العمل، بينما البعض الآخر بملابس عادية، مما يعني أنهم في إجازة. لم يلبثوا أن أحضروا له طبق الحساء، والذي بدا مختلفًا عن ذلك الذي اعتاد تناوله في الفندق. تأمله العجوز خالد باستغراب، ثم نظر إليهم بريبة.
أحد الحراس، مبتسمًا:
– أعرف ما تفكر فيه يا عم… نعم، هذا ليس كطعام الفندق، بل صنعناه لك خصيصًا على طريقتنا. نأمل أن ينال رضاك.
أخذ خالد رشفة من الحساء، ثم اتسعت عيناه بدهشة. لم يكن يتوقع أن يكون بهذا المذاق الرائع! طوال الأيام الماضية، كان يطلب الحساء فقط كجزء من خطته، ولم يكن يستسيغه إطلاقًا، ولكنه الآن بات يفهم لماذا تعجب فهد من مذاق الحلوى. نعم، الطعام الذي يُعد بأيدٍ محلية له نكهة مختلفة، نكهة حقيقية.
أحدهم، مبتسمًا:
– هذا ليس كل شيء يا عم، لدينا مفاجأة أخرى، تفضلي يا أختاه.
نظر العجوز خالد ناحية الباب، فرأى فتاة نحيلة القوام، محجبة، لها قدر لا بأس به من الجمال، بالكاد يصل طولها إلى متر ونصف، تحمل بيدها طبقًا يضم قطعًا متنوعة من الحلوى.
الفتاة (بصوت هادئ ولطيف):
– أهلًا يا عمي، الزملاء أخبروني أنك متشوق لتذوق هذه الحلوى. أرجو أن تنال إعجابك.
تناول العجوز خالد قطعة من الحلوى، ثم نظر إليها بإعجاب، قائلًا:
– شكرًا لكِ يا ابنتي، سلمت يداكِ! أسلوبك يشبه كثيرًا أسلوب الأمهات في الطهي… هل تعلمتِ هذه الحرفة من والدتك؟
بدت علامات الحزن واضحة على وجه الفتاة، ولكنها التزمت الصمت ولم تجب. وقبل أن يتمكن خالد من التحدث مجددًا، قاطعهم صوت من خلف الباب، كان خافتًا، بالكاد سمعه.
دخل أحد الرجال إلى الغرفة، وقال بلهجة رسمية:
– أسرعي… طويل العمر يريدكِ حالًا.
أومأت الفتاة بخضوع، ثم ودعت العجوز خالد بلطف قبل أن تغادر الغرفة.
تنهد أحد الحراس وهو ينظر إلى خالد وقال:
– اعذرها يا عم، نحن نلاحظ أنها لا تتحدث عن نفسها كثيرًا، ولا تحتك بأحد خارج المطبخ. في الحقيقة، يبدو أنها تعمل في الفندق قسرًا… لم نرها تغادر المكان قط.
غادر خالد المكان، عاد إلى المخبأ ليجد فهد في انتظاره، جلس أمام الطاولة، ثم أخرج خالد الجهاز الذي أعطاه له فهد سابقًا، ووضعه على الطاولة.
استمع فهد للتسجيل كاملًا، ومع نهايته، رفع فهد حاجبه وهو يرمق خالد بنظرة ساخرة، ثم قال له غاضبًا:
– أحمق!!! سألتهم عن كل شيء… إلا اسم الفتاة الصغيرة!!! هل مذاق الحساء اللذيذ أفقدك ما تبقى من عقلك؟!
خالد (محاولًا التبرير):
– عذرًا يا فهد، ذهب عن بالي! ولكن دعني أوضح لك شيئًا… صحيح أنهم كانوا يقولون (فتاة صغيرة)، ولكن لا يبدو الأمر كذلك. صحيح أن طولها يجعلها تبدو كطفلة، ولكنها ليست كذلك. صوتها مختلف، نبرة صوتها ليست لطفلة، بل لفتاة بالغة.
صمت فهد للحظة، وعيناه تضيقان بتفكير عميق.
فهد:
– حسنًا، ولكنهم قد نادوا عليها، ألم تسمع اسمها؟
خالد، مترددًا وهو يحاول التذكر:
– ممم… نعم، يبدو أن الشخص الذي جاء ليأخذها ناداها باسمها،ولكنني لم أسمعه بوضوح.
نهض فهد من مقعده وأخذ الجهاز، قائلًا بحزم:
– حسنًا، فلننقل الملف الصوتي إلى جهاز الحاسب ونرفع الصوت… لعلنا نلتقط الاسم بشكل أوضح.
قام خالد بتوصيل الجهاز بالحاسوب، ثم بدأ بتشغيل التسجيل مع رفع مستوى الصوت إلى أقصى حد، لم يكن واضحًا سوى همهمات وكلمات متداخلة، ضائعة وسط ضجيج الهواء، ولكن بعد لحظات، اخترق الصوت الضبابي اسم واحد واضح:
– “ناهد”.