أقلام

المعاد الحق: رحلة العودة من التراب إلى الحساب

أحمد الطويل 

المقدمة:

هل يمكن أن تعود الأجساد بعد أن تفرّقت وتلاشت في التراب؟ هل سيُبعث الإنسان نفسه الذي عاش في الدنيا، أم مجرد صورة عنه؟

في زمنٍ تصارع فيه العقول بين الشك والإيمان، يبرز مذهب أهل البيت عليهم السلام بوضوح وجمال، ليؤكد حقيقة المعاد الجسماني، وأن العودة إلى الحياة ليست خيالًا أو وهمًا، بل وعدًا صادقًا من رب العالمين، تواترت به النصوص، وشهد له العقل، وأكدته كلمات الأئمة الأطهار.

في هذه السطور سنغوص في أعماق الفكر الشيعي الإمامي، مستندين إلى القرآن الكريم، والعقل الصريح، وكلام المعصومين، لنكتشف أن الإنسان سيعود بعينه لا بمثله، وأن المعاد ليس فقط ممكنًا، بل هو ضرورة عدلية وعقائدية.

الإشكال الفلسفي: هل يعود الإنسان نفسه أم نظيره؟

منشأ الإشكال هو التصور بأن الإنسان بعد موته ينعدم عدمًا محضًا، فلو أعاده الله، لن يكون هو نفسه، بل مجرد شبيه له، فيفقد المعاد معناه العميق، وتفقد العدالة الإلهية قيمتها، إذ كيف يُجازى غير من عمل؟

لكن هذا التصور مردود، إذ أن الله سبحانه وتعالى قادر، بعلمه المحيط، أن يُعيد عين الإنسان نفسه، لا مجرد نظير له. فالإعادة لا تتعلق فقط بالقدرة، بل بحفظ الهوية الشخصية، وهي محفوظة عند الله عز وجل.

الموقف الكلامي للخواجة والعلامة الحلي

الخواجة نصير الدين الطوسي يرى أن إعادة المعدوم بعينه محال، لأن المعدوم لا شيء، وما لا شيء لا يعود. ولذلك قال إن المكلف لا يُعدم عدماً محضًاً، بل تبقى له أجزاء أصلية ونفس مجردة، تحفظ هويته ليصح البعث.

العلامة الحلي، في شرحه على تجريد الاعتقاد، يتبنى هذا الرأي أيضًا، مؤكدًا أن الله يُعيد نفس الشخص الأول بعينه، لأن في ذلك تمام الحكمة والعدل الإلهي، وإلا لما استحق الإنسان الثواب أو العقاب.

القرآن الكريم: البعث وعد إلهي لا ريب فيه

القرآن مليء بالآيات التي تؤكد أن البعث هو إعادة لنفس الخلق الأول، لا خلق جديد: “كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين” (الأنبياء: 104):

صريح في أن الله يعيد نفس ما بدأ، لا مجرد شبيه.

“قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم” (يس: 79): يشير إلى أن من خلق أول مرة، قادر على الإعادة بعين الخلق الأول.

“ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًا؟” (مريم: 66): تؤكد أن الإنسان ذاته يُبعث.

روايات أهل البيت عليهم السلام: توضيح المعاد ببيان لا لبس فيه

أحاديث المعصومين عليهم السلام تفسّر القرآن وتوضح تفاصيل المعاد.

عن الإمام الصادق عليه السلام: “من أنكر المعاد فقد كذّب بالقرآن، وإن الله يبعث الخلق بجميع أجزائهم وأرواحهم ليُجازوا بأعمالهم.”

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “لو كان يُبعث غير من عمل، لبطل الثواب والعقاب، وإنما يُبعث من حُفظت أجزاؤه، وعلمه الله بأعيانه.”

هذه الروايات تؤكد أن البعث سيكون بنفس الجسد والنفس التي كانت في الدنيا، وأن الله يحفظ الأجزاء مهما تفرقت، ليُعيد الإنسان نفسه.

الرد على شبهة استحالة إعادة المعدوم

من خلق الإنسان من العدم أول مرة، لا يعجز عن إعادته بعد الفناء، بل الإعادة أيسر، لأنها ليست إنشاءً جديدًا بل إعادة لما كان.

القدرة الإلهية تتعلق بكل ممكن، والمعدوم الممكن لا يمتنع عليه تعالى. وما يتوهمه البعض من استحالة الإعادة، ناتج عن جهل بحقيقة علم الله وحفظه لهوية الأشياء.

العدالة الإلهية توجب المعاد بشخص الإنسان لا بمثله

إن القول بخلق شبيه للإنسان لا يُحقق العدالة، لأن الثواب والعقاب يتوجهان إلى الفاعل لا إلى غيره. فإذا لم يُبعث نفس الشخص، لَما استحق شيئًا مما وعد الله به من حساب وجزاء.

لذا قال الإمام الباقر عليه السلام: “يُبعث الناس يوم القيامة بجميع ما كانوا عليه، فلا يخفى على الله منهم خافية.”

الخلاصة:

وعد صادق وبعث حقيقي.

المعاد عند الشيعة الإمامية ليس رجعة رمزية، بل حقيقة عقلية ونقلية، قررها القرآن وأكدتها كلمات المعصومين. الإنسان يُعاد بعينه، بجسده وروحه، لا بمثله أو شبيهه، لأن الله يحفظ الهوية الفردية بدقة لا يُدانيها علم.

إن إنكار المعاد الجسماني هو إنكار لحكمة الله وعدله، بينما الإيمان به يعمّق الثقة بالآخرة، ويجعل للوجود معنى، وللعمل في الدنيا ثمرة.

فالآخرة ليست نهاية، بل بداية جديدة، يعود فيها الإنسان بما عمل، ويُجزى بما قدم، فيظهر عدل الله، وتُفصح القدرة الإلهية عن كمالها، كما قال تعالى:

“كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين”.

اللهم يا من بدأت خلقنا من تراب، ثم أنشأتنا بشرًا سويًا، ثم وعدتنا بإعادتنا للحساب والجزاء، نسألك بعزتك وقدرتك، أن تُثبت قلوبنا على الإيمان بلقائك، وترزقنا يقينًا لا يرتد، وخشوعًا لا يغيب، وعملاً صالحًا نلقى به وجهك الكريم.

اللهم اجعلنا من الذين يُبعثون على طاعتك، ويُحشرون في زمرة عبادك الصالحين، ووفقنا لما يرضيك في الدنيا والآخرة، إنك أنت السميع العليم، القريب المجيب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى