أقلام

في محكمة الهوى: حين يغدو الطلاق سوقاً، والعلاقات أرشيف قضايا

عماد آل عبيدان

﴿فَانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ الروم-50

فكيف بنا وقد استبدلناها بآثار الجفاء، والطلاق، والخصام؟!

في بهو المحكمة

حيث الزمن متوقّف، والقلوب معلّقة على أبواب القضاء

تجلس امرأة ترتدي وجعها كعباءة… وطفل يتكوّر في حضنها كعلامة استفهام لا جواب لها.

رجل يحدّق في اللاشيء، كأنه يبحث عن عمر ضاع بين توقيع ومهر وشهادة زواج مطوية.

هنا… لا تُسمع ضحكات الأطفال، بل بكاؤهم.

لا يُرى فستان عرس، بل ثوب تعبٍ قديم.

هنا… تسكن الحكايات التي خُتمت بـ”طلاق بائن” بدل “وعاشوا في تبات ونبات”.

تتسلل الأرواح المنهكة كأنها تجرّ أقدامها من ألم الحياة، لا من صعوبة القوانين.

في هذه الزاوية تحديدًا

يقف الحب خجولًا، منكسرًا، مكممًا، ينظر إلى من كانوا بالأمس عشّاقًا،

ويتمتم:

“كيف صرتم غرباء بهذا الشكل؟”

وفي ظل هذا المشهد العاطفي الموجع، ويا للأسف،

صرنا نسمع في كل صباح من منبر المسجد:

فلانٌ مخلوعٌ من فلانة، وفلانةٌ تم طلاقها من فلان!

وكأن الطلاق صار نشرة أخبار يومية،

ومشربة ماء في مكتب الاستقبال!

مشاهدات في محاكم الأحوال الشخصية:

بنات بعمر الورود يتجولن بين مكاتب القضاة

هذه تستلم النفقة، وتلك تحمل ملف أوراق تطالب بها،

وأخرى تطلب ضم صغير،

وأخرى تطالب بحبس طليقها لعدم دفعه النفقة…

كل بنت خلفها أمٌّ تركض معها للإيقاع بمن كان يومًا شريك حياتها

في صالة الانتظار، هناك عدد كبير من النساء أضعاف عدد الرجال

وجوه تحمل ملامحها الكثير من الكيد والإرهاق والتعب والأسى.

أطفال وأخوة سيفترقون، ويُتركون لرحمة الأيام…

أم تحاول استرجاع قلبها بعد أن قام طليقها بتسفيره خارج البلاد.

رجل سيتحمل فراق أولاده والذهاب لمشاهدتهم في دور رعاية في برود قاتل لعاطفة الأبوة… او موعد استلام وتسليم للأبناء لرؤيتهم؟!!

رجل يبكي، ويحضر مشروحات براتبه تفيد بأن المتبقي من راتبه لا يكفيه يومين، وبلاؤه عظيم…

تسمع صرخة رجل:

“يا شيخ احبسني، السجن أرحم… مو قادر أصرف عليهم!”

فتاة تسعى إلى الطلاق وتقف أمام ناظري زوجها بدون أي حياء ولا استحياء، ولا خجل، بصحبة أبيها أو أمها، وقد تناسوا أنها كانت بالأمس منه في لحظة انكشاف تام دون ساتر

صارخة باكية سقطت قضيتها لأنها لا تملك إيجار المجيء إلى المحكمة، تقول:

“والله ما حضرت، ما كان معي إيجار الطريق… ما أقدر أدفع رسوم تجديد القضية.”

بنت تحمل صغيرها الذي لم يتجاوز عمره العام، بهذا الحر، يصرخ، ربما جوعًا أو عطشًا أو اعتراضًا أن المحكمة ليست مكانه،

ولا يعلم أن مستلزماته من الحليب والفوط سيتم تأمينها بعد أن يُلقى القبض على والده المتخلف عن دفع نفقته لضيق ذات اليد

رجل وامرأة تجاوز عمر زواجهما ثلاثين عامًا، لديهما عشرات الأحفاد،

وتطالب بالطلاق أو الخلع، لتتفرغ لنفسها، كما تقول، وتتنفس في المقاهي والمطاعم مع صديقاتها.

وغير ذلك من الصور الكثير

لكن لماذا وصلنا لهذه المرحلة؟

 

بعد أن كان كبير أي أسرة قادرًا على حل أي خلاف داخلها.

بعد أن كانت كلمة “كبير العائلة” تزن الذهب، وتُحترم حكمته،

وكانت الأم إذا غضبت تقول لابنتها:

“اصبري، بيتك أمانك.”

لا أن تهتف بانفعال:

“اتركيه وسأزوّجك سيد سيده!”

وأم تقول لابنها:

“عذّبها وجرجرها بالمحاكم، وأنا أزوّجك أحسن منها، بنت فلانة!”

فالنتيجة؟

حالات طلاق بالجملة،

وبكل أسف، أغلبها لأسباب لا تصمد أمام عاصفة،

ولا تستحق أن تهدّ أُسرة، وتشقّ قلب طفل، وتُشعل حربًا بين العائلتين!

أصبح الطلاق في يومنا هذا كمن يشرب كأس ماء

دون تفكّر، دون تبعات، دون مسؤولية.

فما أثر الطلاق؟

• أطفال مشردون عاطفيًا بين أم غاضبة وأب مفلس.

• نساء يحملن ألم الانفصال ووجع التهم.

• رجال يتنقلون بين أقسام التنفيذ وسجون المطالبات.

• عائلات تحولت لحلبات صراع… لا راحة فيها ولا مودة.

• مجتمع أصبح فيه الزواج مرحلة تجريبية، لا رباطًا مقدّسًا.

ما بعد الطلاق؟

هو ليس “نهاية مشكلة” كما يُروّج… بل بداية مشكلات:

• نفقة لا تُدفع، وأحكام لا تُنفّذ،

• أولاد ينشؤون في كراهية،

• جدّات وأعمام وخالات كلٌّ يشتم الآخر،

• محاكم مكتظة… وقلوب فارغة من الرحمة.

ما الحل؟

• أن نُعيد للزواج قداسته، لا نُعامل العلاقة كاشتراك إنترنت يُلغى ببساطة.

• أن نُهيّئ الشباب للزواج بالتربية لا فقط بالحفلات.

• أن نجعل من “الصلح” فضيلة، لا هزيمة.

• أن نُربي البنات على الصبر، كما نُربي الأولاد على المسؤولية.

• أن نتذكّر:

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾

وليس: وعاشروهن بالمحاكم والتنفيذ والخصومات.

فلنقف جميعًا أمام المرآة، ونسأل أنفسنا بصدق:

هل نعيش كما أراد الله؟

هل عرفنا معنى الزواج؟

هل نسينا ما قاله النبي، صلى الله عليه وآله وسلم:

“خيركم خيركم لأهله”؟

يا أهلنا:

اتقوا الله في بناتكم،

اتقوا الله في أزواج بناتكم،

اتقوا الله في أنفسكم،

اتقوا الله في المجتمع،

فالظلم عواقبه وخيمة…

والطلاق إن لم يكن ضرورة، فهو قنبلة صوتية تُدوي في قلوب الأبناء لسنوات.

ختاماً: فيا كل زوجٍ وزوجة

قبل أن تفتحا باب المحكمة، انظرا في عيون أبنائكما…

هل ترونه باب خلاص، أم باب ندم سيدوم طويلاً؟

فالبيوت لا تُبنى على الكمال، بل على التحمّل،

ولا تُعاش بالحساب، بل بالعطاء،

والمودة لا تُقاس بعلبة ورد، بل بصبرٍ واحتواء وستر.

لا تجعلوا اختلافاتكم معاول هدم،

ولا تستعينوا بأهل السوء في خراب ما بُني على نِعم الله.

فكل بيتٍ له أيام مُرّة،

لكن من يصبر على المرّ، يذوق حلاوة العُمر.

ولا تنسوا أن الزواج آية…

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾

فهل صرنا نهدم الآيات بجهلنا، ونطرد السكينة بأيدينا؟

ارحموا بيوتكم… ترحمكم الحياة.

وتذكّروا دومًا:

ليس كل خلاف يُحلّ بالطلاق

لكن كل طلاقٍ يخلّف خلافًا أعمق، لا يُحل بسهولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى