الحضور الذي لا يغيب ونور الله في العوالم

أحمد الطويل
مقدمة:
منذ أن خلق الله الخلق، كانت هناك حقيقة تهتف بها الأرواح، وتقرّ بها العقول السليمة، وترتجف لها الأفئدة المؤمنة: أن لله حجّة لا يغيب، ونورًا لا يخبو، ودليلًا لا يضل.
فكيف يغفل من جعله الله واسطة الفيض، ومرآة القدرة، ومفتاح الهداية في كل العوالم؟!
هنا لا نتحدث عن شخصية عظيمة فقط، بل عن سرٍّ ربّاني حي، حجة على الأكوان، وصراط لا يُقطع إلا به، ونور لا يُرى إلا عبره.
فمن لم يعرفه، غاب عن النور، ومن غفل عنه، غفل عن الحق.
فيا طالب الحق، اصغِ لقلبك، وتحرّك بعقلك وسِر معنا نحو اليقين.
حجّة الله في اثني عشر ألف عالم
قال الإمام الصادق عليه السلام: «إن لله عز وجل اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، لا يرى كل عالم منهم أن لله عالمًا غيره، وإني الحجة عليهم» (الخصال للصدوق، ص653).
أيُّ مقامٍ هذا؟ وأيّ دورٍ؟
إنها ليست حجّة على أمّة أو بلد أو جيل… بل على عوالم لا يُحصى عددها.
فهل من اختاره الله لهذا المقام يمكن أن يغفل؟!
الحضور دون حدود: سرّ الزمان والمكان
قال الإمام علي بن الحسين عليه السلام لرجل متفاخر بعلمه الفلكي: «هل أدلك على رجل مرّ منذ دخلت علينا في أربعة عشر عالمًا، كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرات، لم يتحرك من مكانه؟» (الاختصاص للمفيد، ص332).
الإمام لا يحدّه مكان، ولا يقيّده زمان. فكما أن جبرائيل يسري، وميكائيل يقسّم، فكيف بمَن هو إمامهما؟
الولاية هنا ليست خيالًا، بل فيض إلهي، جعل من الإمام قلبًا نابضًا للعوالم كلّها.
الغفلة؟! وهل يغفل من هو عين الله؟
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا (الأنبياء: 73). “بأمرنا” أي بسلطان الولاية التكوينية، التي تقتضي الحضور الدائم، والعلم المحيط، والنور المتصل.
وقال الإمام الحسن عليه السلام: «في المشرق مدينة، وفي المغرب مدينة… وأنا أعرف لغاتهم، وما فيهم، وما عليهم حجة غيري وغير أخي الحسين»
(الكافي 1: 510).
كيف يغفل من كانت له هذه المعرفة، وهذه الرعاية؟!
العقل والفطرة: لا يقبلان إمامًا ناقصًا
لو أن الله أرسل حجةً يجهل أحوال أمّته، أو يغيب عنهم، أو لا يُبصر ما يمرّ بهم، فهل يكون هذا حجّةً؟
أبدًا… فالعقل السليم يرفض حجةً غافلة أو ناقصة.
الإمام لا بد أن يكون جامعًا بين خصائص الغيب والشهادة، بين الروح والخلق، بين الأمر والمادة.
هو الواسطة التي لا تكون إلا بإذن الله، والتي لا تفتر، ولا تغيب.
أهل البيت: العروة الوثقى في ظلمات الانحراف
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «حبّ أهل بيتي وذريّتي استكمال الدين»
(بحار الأنوار 27: 84).
وقال الإمام علي عليه السلام: «العروة الوثقى: المودة لآل محمد»
(تفسير القمي، ذيل الآية 256 من سورة البقرة).
ولكن الحب هنا ليس عاطفة سطحية، بل ارتباط روحي، وإقرار بالقيادة، وطاعة وبصيرة، وهداية.
إنهم أهل النور، وسبيل القلوب الطاهرة إلى الله، وذكراهم هي الطمأنينة التي وعد الله بها قلوب المؤمنين: ﴿الَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
قال الإمام الحسين عليه السلام: «من أحبّنا لله، كنا نحن وهو يوم القيامة كهاتين» (بحار الأنوار 44: 192).
في حضرتهم لا مجال للشك
يا من يشكّ في مقام الإمام، ويا من يتساءل كيف يكون حاضرًا على كل العوالم…
قف وتأمل:
هل يُعقل أن يختار الله حجّةً تغيب؟
هل يضع الوسيط بينه وبين خلقه ناقصًا أو عاجزًا؟
هل يسند القيادة الربانية إلى من لا يحيط علماً بما وُكّل به؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إن علياً مظهر العجائب، من شك فيه فهو منافق مردود» (صحيفة الأبرار، ج3، ص247).
الخلاصة:
الإمام المعصوم ليس فردًا ملهَما أو قائدًا دينيًا فحسب، بل هو فيضٌ إلهي دائم، حجة على عوالم لا تُعدّ ولا تُحصى، حاضرٌ في كل زمان ومكان بعلم الله وإذنه. ولا تغيب عنه تفاصيل خلق الله، لأن ولايته تكوينية، نابعة من مقام إلهي جعله واسطة بين الغيب والشهادة.
محبته ليست مشاعر عاطفية، بل صراطٌ إلى الله، والعقل والفطرة يشهدان أن الحجة لا تكون إلا كاملة حاضرة.
فمن عرف الإمام حقًا، عرف ربه، ومن أحبّه لله، سار إليه بنور لا ينطفئ.
اللهم لا تميتنا ميتة جاهلية، ولا تخرجنا من هذه الدنيا حتى ترضى عنا برضاهم، وتهدينا بهم، وتنقلنا إليهم، وتقيمنا في صفّهم يا أرحم الراحمين.