زمزم وتكتم، حين تفجّرت المعجزة من قلب الخفاء!

أحمد الطويل
مقدمة:
حين تتفجّر المعجزات من حيث لا نتوقع!
تخيّل أن أعظم شريان للحياة في مكة، لم يكن نهرًا جاريًا، ولا عينًا تسرح فوق الأرض، بل كان سِرًّا مطمورًا تحت الرمال، يختبئ من العيون بانتظار ساعة الظهور!
وتخيّل أن أمّ الإمام الرضا عليه السلام، الإمام الذي تنبض به قلوب المحبين وعقول العارفين، لم تكن أميرة مُعلَنة ولا سيّدة في مجلس الزعامة، بل كانت جارية مستورة، يتردّد اسمها بين “نجمة” و”سكن” و”أروى”، لكن في قلب بيت الإمامة نادَوها باسمٍ غريب: “تكتم”.
ما الرابط بين بئر زمزم وامرأة تدعى “تكتم”؟
ما العلاقة بين ماءٍ نَبَعَ من تحت قدم طفل في صحراء، وامرأة أخرجت من رحمها إمامًا حيًّا لا يُطفأ نوره؟
في هذه الرحلة، لن نقصّ فقط حكايتين، بل سنغوص في رمزٍ إلهيٍ عميق، حيث الخَفاءُ مقدّمةٌ للظهور، وحيث يُخفي الله أعظم نعمه في أكثر الأماكن بساطةً وصمتًا.
الماء المخبأ الذي أنقذ الوادي
كل شيء بدأ من صحراء قاحلة، سُكون، رمال، وطفل رضيع تركه أبوه إبراهيم عليه السلام بين التلال، مع أمه هاجر.
لكن لا شيء يعلو على قلب الأم.
ركضت هاجر، سبع مرّات، بين الصفا والمروة، والقلق يأكلها، والعطش ينهش جسد ولدها إسماعيل.
ثم حدثت المعجزة.
بلمسة من جناح الغيب، ضرب جبريل عليه السلام الأرض فانفجرت زمزم!
لم يكن ماءً عاديًا، بل ماءً قيل عنه: “ماء زمزم لما شُرب له”، ماء يُشفي، ويُبارك، ويُحيي!
ولكنها بعد ذلك اختفت، اندثرت، ودُفنت في قلب الأرض.
مرت سنوات طويلة إلى أن جاء عبد المطلب، جدّ النبي صلى الله عليه وآله، فيُرِى في المنام ثلاث ليالٍ متتالية، حتى يُرشد إلى موضعها.
يحفر… ثم تتفجّر من جديد!
زمزم لم تُعطَ إلا لمن سعى لها، لمن صدّق الرؤيا، لمن آمن بالوعد رغم الرمال.
المعجزة كانت في الصبر، ثم في الانفجار الإلهي من حيث لا يُتوقع.
المرأة المستورة التي أنجبت نور الإمامة
في عصر آخر، وسط بيت الإمام موسى الكاظم عليه السلام، كانت هناك جارية لا تلفت الأنظار. اسمها في الأوراق: نجمة. ولكن اسمها في بيت الإمامة: تكتم.
كانت هادئة مطمئنة حتى سمعها الإمام الكاظم عليه السلام ذات ليلة، تتلو القرآن بخشوعٍ مزلزل.
نظر إليها، كأنما يرى الغيب، وقال: “أنتِ والله تكتم، ستلدين خير أهل الأرض.”
(بحار الأنوار، ج49، ص5)
وهكذا، كما تفجّرت زمزم من الأرض، تفجّر النور من رحم تكتم.
وُلد الإمام الرضا عليه السلام، بحر العلم، وغيث الرحمة، وسراج الهدى.
لم تكن “تكتم” مجرد جارية، بل كانت “الطاهرة المطهّرة” كما وصفها الإمام الكاظم عليه السلام.
طاهرة مثل زمزم، مباركة مثل مائها، ومعجزة منسية حتى آن وقت الظهور.
حين يتكلم الاسم عن السر
اللافت أن اسم “تكتم” لم يكن اختيارًا عبثيًّا.
ففي كتب اللغة، نُقل أن من أسماء بئر زمزم “تكتم”!
اسم غريب لامرأة، واسم غريب لبئر، ولكن الرابط ليس في الغرابة، بل في القداسة والسرّية.
العلماء قالوا:
وجه الشبه الأول: أن زمزم كانت مجهولة فترة من الزمن، وعرفها الناس برؤيا رآها عبد المطلب، الرجل الموحد، الذي اختصّه الله بهذه المعرفة.
وكذلك، كانت “تكتم” امرأة ذات شأن في بلادها المغرب، ولكنها مجهولة القدر، حتى وصلت إلى بيت حميدة المصفاة، زوجة الإمام الصادق عليه السلام، فتعلّمت العبادة والطهارة، ثم وُهبت للإمام الكاظم عليه السلام، لتلد الإمام الرضا.
وجه الشبه الثاني:
كما أن زمزم تخرج ماءً فيه الشفاء والبركة، فإن الله أخرج من تكتم خيرًا أعظم: الإمام الرضا، الحجة، العالم، البرهان، من لا يُقارن ماءٌ بفضله!
فهل ترى أيها القارئ التشابه؟
اسم “تكتم” قد يكون تشبيهًا إلهيًّا مقصودًا، ليقول لنا:
أن ما يُخفى قد يكون أعظم مما نرى.
السر الإلهي بين الماء والرحم
زمزم اختبأت تحت الرمال، وتكتم خلف ستار العبودية.
زمزم فُجّرت لتروي طفلًا في الصحراء، وتكتم أنجبت إمامًا يروي قلوب أمّة بأكملها.
زمزم عادت برؤيا لصادق مؤمن، وتكتم ظهرت بكلمة لصادق معصوم.
زمزم تُشفي الأجساد، وتكتم أنجبت من يُشفي الأرواح والضمائر.
ليست هذه مقارنة بلاغية، بل رسالة روحية: إن الله لا يُخفي إلا ما يريد له الظهور الأعظم. وأن الطهارة قد تختبئ خلف عبودية ظاهرية، ولكنها في ميزان الله أعظم من ألف حرّةٍ فخورة.
الخلاصة:
المعجزة تبدأ حين نغفل عنها!
نحن نمرّ أحيانًا على أشياء لا نُعيرها انتباهًا، بئر مدفونة، جارية لا تُذكر، امرأة مستترة، ماء خفي،
لكن ما إن يحين وقتها، حتى تتفجّر المعجزة منها، فتُدهشنا!
زمزم كانت بئرًا تحت الأقدام، وتكتم كانت جارية في الظلال، ولكن الله، بحكمته، أظهر من الأولى ماءً لا ينضب، ومن الثانية إمامًا لا يُطفأ نوره.
هذا منطق السماء: أن النور لا يخرج إلا من طُهر، وأن العظمة لا تولد إلا من خفاء.
وكأن الله يقول لنا: لا تستهينوا بالمستور، فرُبّ خفيّ هو أعظم من كل ظاهر!
اللهم كما فجّرت زمزم من قاع الوادي ليشرب منها الظمآن، وكما أخرجت نور الإمام الرضا من رحم الطاهرة تكتم، ففجّر في قلوبنا عيون اليقين، وأخرج من ظلمات غفلتنا نور الهداية والرضا. اللهم ارزقنا إيمان عبد المطلب حين حفر زمزم، وصبر هاجر حين سعت بين الصفا والمروة، وطهارة “تكتم” حين حملت بنور الإمامة.