أقلام

الفصل الخامس: حين يصبح الهدوءُ أكثر ضجيجًا من الضجيج

إبراهيم الرمضان

فهد يدخل إحدى القرى متلثمًا، تتقدم قدماه ببطء فوق الطرقات الترابية المتعرجة، وعيناه تمسحان المكان بحذر. كانت هذه القرية يومًا ما مسقط رأسه، قبل أن تنتقل عائلته إلى أحد الأحياء الجديدة.

رغم أن ملامح القرية قد تغيرت كثيرًا، ووصلها العمران والتحديثات، إلا أن الزقاق الذي يقع فيه منزل عوض بدا وكأنه عالق في زمن آخر، لم ينله نصيب من التطور، ولم تمتد إليه يد التحديث كبقية الحارات. كان البناء شعبيًا قديمًا، بأسواره العالية التي تكتم الهواء، ومداخله الضيقة التي لا تتيح أية تهوية، لا نوافذ كبيرة ولا فتحات، فقط الشمس تتسلل بخجل إلى الفناء الداخلي، أو كما يسمونه هنا بـ(الحوي)، حيث يتجمع الضوء نهارًا ليبدد بعضًا من كآبة المكان، قبل أن يعود الظلام ليحتله مجددًا مع غروب الشمس.

وقف أمام الباب، وطرقه عدة مرات. لم يصله رد! طرقه مرة أخرى، ولا شيء. وحين ضربه للمرة الثالثة، فُتِحَ الباب أخيرًا، ليطل عليه طفل صغير، بالكاد يبلغ الخامسة أو السادسة من عمره، عيناه فضوليتان، وملابسه متسخة بعض الشيء.

فهد (بصوت هادئ وهو ينظر إلى الصغير):

–     هل هذا منزل (عوض)؟

هز الطفل رأسه بالإيجاب، ثم أفسح له الطريق قائلًا ببساطة:

–     نعم، يمكنك الدخول، لا نساء هنا.

ارتفع حاجبا فهد في دهشة، قبل أن يدخل مترددًا… شيء ما لم يكن على ما يرام. لقد عرف أين ذهبت ناهد، لكن والدتها؟ أين هي؟!

بخطوات بطيئة، تقدم داخل المنزل، الهواء كان مشبعًا برائحة الغبار، والمكان شبه معتم رغم ضوء الشمس الذي كان بالكاد يتسلل من خلال فناء المنزل. وعند الزاوية، كان (عوض) جالسًا على الأرض، يحدّق في اللاشيء، عيناه محمرتان، ووجهه شاحب كمن لم يذق طعم النوم منذ أيام.

فهد (مترددًا وهو يقترب منه):

– عوض كيف حالك؟

لم يكن هناك رد

فهد جلس بالقرب منه، وهو يراقب تعابير وجهه الميتة، قبل أن يسمع صوته أخيرًا، مبحوحًا، ضعيفًا، ولكنه يردد العبارة ذاتها مرارًا وتكرارًا، كأنه في غيبوبة ذهنية:

–     آآآه بات المكان أكثر هدوءًا في عالم يضج بالضجيج

كانت دموعه تنهمر بصمت، وكأنها تذرف على شيء لا يستطيع حتى التعبير عنه. بعد لحظات، سُمع طرق آخر على الباب، هرول الطفل نفسه لفتحه مجددًا، ليظهر خلفه امرأة كبيرة، تبدو من الجيران، تحمل في يدها سفرة دائرية مصنوعة من الخوص تعلوها بعض أرغفة الخبز، وطبق من المربى، وأطباق صغيرة من المكدوس واللبنة والزعتر، إلى جانب عدة بيضات مسلوقة. دخلت المرأة بهدوء، وقد ارتدت عباءتها التقليدية بحشمة، تعكس أصالة المكان وروح أهله.

رمقت المكان بنظرة مشفقة، ثم وضعت السفرة على الأرض واقتربت من عوض، الذي ما يزال في جلسته المنهارة، محدقًا في العدم، كأنه ليس هنا.

جلست أمامه على ركبتيها، وقالت بنبرة تحمل حزنًا وعتابًا معًا:

–     حرام عليك يا عوض، لنفسك عليك حق! يجب أن تأكل شيئًا، نياحك هذا لن يعيد شيئًا، ولن يغير من الواقع.

ولكن عوض لم يتحرك، ولم يُبدِ أية ردة فعل، ظل يهز رأسه ببطء، وصوته المرتجف يكرر العبارة ذاتها:

–     بات المكان أكثر هدوءًا في عالم يضج بالضجيج

ثم تابع بصوت مخنوق، وكأن كلماته تُنتزع منه انتزاعًا:

–     ولكن هذا الهدوء أشد إيلامًا من كل ذلك الضجيج!

ساد الصمت، لم تعد المرأة تعرف ماذا تقول، بينما نظر فهد إليه طويلًا، قبل أن يزفر بهدوء، وهو يدرك أن هذا الرجل لم يعد كما كان.

نظر فهد إلى المرأة بتمعن، وعيناه تتوسعان في دهشة طفيفة عندما تأكد من صوتها، لقد كان مألوفًا جدًا… كان حين دخوله قد أماط اللثام قليلًا، ولكن عند جلوسها وانشغالها بعوض، انفك ما تبقى من اللثام تمامًا، فالتفتت إليه المرأة، وعيناها تتمعنان في ملامحه بدهشة ممزوجة بفرحة خجولة.

وضعت يدها على فمها كأنها تحاول استيعاب الأمر، ثم هتفت باندهاش:

–     فهد؟؟؟ أهذا أنت؟؟! يا الله، أهلًا يابن الغالية متى خرجت من السجن بالسلامة؟

رفع فهد حاجبيه مبتسمًا ابتسامة جانبية، لم يكن متفاجئًا بقدر ما كان متأملًا للمفارقة العجيبة، أن تكون أم موسى – إحدى أعز صديقات والدته – هنا، في هذا المكان، تهتم بأطفال رجل كُسر ظهره بيد أبو مشاري.

رغم أنها أقرب في السن إلى والدة فهد، إلا أنها لم تنجب أولادًا في جيله؛ فقد رزقها الله بثلاث بنات تزوّجن جميعًا، قبل أن تُنجب موسى متأخرًا، والذي التحق مؤخرًا بالجامعة.

كانت أم موسى دومًا مثالًا للمرأة الحكيمة الهادئة، تجمع بين حنان الأم وعمق التجربة، وهو ما أكسبها احترام فهد وتقديره، حتى وإن ظلت علاقته بها محصورة في إطار الصداقة القديمة التي كانت تجمعها بوالدته.

فرك لحيته القصيرة وهو يجيبها بنبرة ساخرة خفيفة، محاولًا تخفيف التوتر:

–     أوه، خرجت منذ فترة ولكن يبدو أنكِ كنتِ مشغولة جدًا بحيث لم يصلكِ الخبر، صحيح يا خالتي؟

ضحكت أم موسى ضحكة قصيرة وهي تهز رأسها بأسف:

–     الدنيا تأخذنا، يا ولدي ولكنني سعيدة برؤيتك، رغم أنني لم أكن أتمنى أن يكون اللقاء هنا، في هذا البيت الحزين.

ثم عادت بنظرها إلى عوض، الذي لم يبدِ أي اهتمام بالحوار الدائر حوله، كان غارقًا في عالمه الخاص، عالم فقد فيه كل شيء

أعادت أم موسى نظرها إلى فهد، ونبرتها هذه المرة كانت أكثر جدية:

–     ولكن أخبرني يا فهد ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لا أظنك مررت صدفة، صحيح؟

ضاقت عينا فهد قليلًا، ثم رد بصوت خافت:

–     جئت لأعرف حقيقة ما حدث وخصوصًا عن ناهد.

ساد الصمت للحظات، فتنهدت بعمق وقالت:

–     سأخبرك بكل شيء، ولكن تعال معي إلى المنزل، بالتأكيد أبو موسى سيسر عندما يسمع بخبر خروجك بالسلامة… وأرجو ألا ترد دعوتي، سأطبخ لك أحلى طبخة.

قبل أن يلبي دعوتها، التفت إلى عوض ثم جلس بحيث أصبح مقابله تمامًا، وضع يديه على كتفيه ونظر إليه بعينين جادتين مع ابتسامة خفيفة.

فهد (بنبرة هادئة، ولكن ساخرة):

–     الخالة أم موسى طلبت مني أن أكون ولدًا شاطرًا وأسمع الكلام وأذهب معها لتناول الغداء، وأنت أيضاً يجب أن تكون مؤدبًا وتأكل مما أعدته لك، ولا تكن سبب غضبها صدقني، غضب الأمهات أخطر من الجوع!

رفع عوض رأسه بنظرات مستنكرة، وكأن جزءًا من إدراكه عاد إليه.

فهد (بهدوء مشوب بالثقة):

–     أما بشأن ناهد، فلا تقلق عليها، صحيح أنني لم ألتقِ بها بعد، ولكن صاحبي رآها، وأطمئنك بأنها بخير.

لاحظ فهد أن تعابير عوض بدأت تتغير قليلًا، كأن سكينةً نزلت على رأسه فجأة.

فهد (بجدية ممزوجة بالتشجيع):

–     ومع ذلك، عليك أن تستعيد شجاعتك، لا يمكن لناهد أن تخرج من محنتها بهذا الانكسار، إنها بحاجة لأبٍ قوي، وليس لرجل قرر أن يذوب في نفسه. أمامك أيام وربما أسابيع حتى تستعيد قواك ولكنك ستفعل، أليس كذلك؟

نظر إلى السفرة، فرأى الأطفال يراقبون الوضع، أعينهم تائهة ولكنها مترقبة، ينتظرون أي تحرك من أبيهم حتى يشاركوه الطعام.

فهد (مشيرًا للسفرة بنبرة ودودة ولكن حازمة):

–     سأذهب مع الخالة أم موسى، وعندما أعود، أريد أن أرى الأطباق فارغة… أفهمت يا شاطر؟ لا تدع أطفالك يتضورون جوعًا أكثر من ذلك.

ثم فجأة، غير فهد تعابير وجهه لتصبح ممتلئة بالبؤس الزائد، ثم وضع يده على صدره ورفع رأسه للسماء، وبدأ بتقليد عوض بنبرة حزينة مصطنعة:

–     آآآه، بات المكان أكثر هدوءًا في عالم يضج بالضجيج لقد كنت أشتكي من الضجيج، والآن أشتكي من الصمت! حتى الصحون صارت تنظر إليّ بعين الشفقة، تترجاني أن ألتهمها بدل أن تأكل نفسها.

عوض، الذي كان على وشك أن يتأثر، حدّق فيه بغضب وقال بانفعال:

–     اُخرج قبل أن أكسر كل هذه الأطباق على رأسك.

ضحك فهد قائلًا وهو ينهض:

–     هذا هو عوض الذي أعرفه! على الأقل لم تنتهِ قصتك لتكون بعنوان (عوض شهيد الهدوء)!

ثم غادر مع أم موسى، تاركًا خلفه رجلًا بدأ يتذكر طعم الحياة من جديد.

دخل فهد خلف أم موسى إلى أزقة القرية الضيقة، ولاحظ أن العيون تتابعه منذ اللحظة التي وطأت قدماه المكان، ولكن هذه النظرات لم تكن كتلك التي اعتاد عليها في الحي الذي انتقلوا إليه. هناك، كانت الوجوه ناقمة، مشدودة، مليئة بالازدراء، وكأن أهل الحي تمنّوا لو أن الشمس قد أحرقته وحوّلته إلى رماد، فقط ليرتاحوا من عبء وجوده بينهم.

أما هنا فالنظرات مختلفة تمامًا. لا خوف، لا احتقار، بل خليط غريب بين الترقب والأمل. وجوه أهل القرية لم تحمل الكراهية، بل كانت أشبه بنظرات المستضعفين الذين يتشبثون بأي بصيص نجاة. وكأن كل واحد منهم يريد أن يقول: “أهذا هو؟ مخلصنا؟ منقذنا من خطر جحافل العرمرم؟!”

تجاهل فهد النظرات قدر استطاعته، ولكنه شعر أن خطواته أصبحت أثقل، وكأنه يحمل على كتفيه توقعات لم يطلبها، ومسؤوليات لم يوقّع عليها.

عند وصولهما إلى المنزل، فتح أبو موسى الباب، ولم يكد يرى فهد حتى تهلّل وجهه بالفرح، وفتح ذراعيه مرحبًا:

–     فهد! سبحان من أعادك سالمًا! كيف حالك؟ متى خرجت؟!

شدّ فهد على يده بحرارة، وأجابه بابتسامة جانبية:

–     قبل فترة، لكن يبدو أن الأخبار لا تصل إلى هنا بسرعة!

ضحك أبو موسى وهو يدعوه للدخول، جلسوا جميعًا في فناء المنزل، حيث كانت نسمات الهواء تلطف الجو قليلًا.

أبو موسى المعروف ببساطته وتواضعه، كان قد شقّ طريقه المهني منذ سن مبكرة؛ إذ استقطبته الشركة النفطية في إحدى زياراتها الميدانية للمدارس للعمل لديها، في زمن لم تكن فيه تلك الوظائف مرغوبة كما أصبحت لاحقًا في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات.

اكتفى حينها بالشهادة المتوسطة، والتحق ببرنامج تدريبي في مجال الاتصالات. وقد أُتيحت له لاحقًا بعثة دراسية، اكتسب خلالها خبرات إضافية عبر برامج تدريبية مكثفة، ليصبح مع مرور الوقت على صلة وثيقة بشبكة واسعة من التقنيين والخبراء في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات. وقد تقاعد مؤخرًا بعد عقود طويلة من العمل.

تأمل فهد المكان حوله، ثم قال بفضول:

–     الغريب يا أبو موسى، أني لم أشعر بالغربة هنا، رغم أني لم أزر القرية منذ زمن طويل، ولكن الفرق واضح… في حيّنا، الناس يتمنون لو أنني لم أخرج أبدًا، كأنهم كانوا مرتاحين لكوني خلف القضبان، أما هنا…

توقف قليلًا وهو يعيد التفكير في نظرات أهل القرية قبل أن يكمل:

–     أما هنا، فالنظرات لم تكن حاقدة ولا مستنكرة، بل كأنهم ينتظرون مني شيئًا، شيء لا أعرفه حتى الآن.

أبو موسى، وهو يتكئ إلى الخلف واضعًا يده على ركبته، وقال بنبرة هادئة:

–     لا تستغرب، يا فهد الجميع هنا يكره أبو مشاري ويعرفون أنه سبب سجنك، ولكنهم ليسوا حمقى. صحيح أنهم لا يؤيدون ما كنت تفعله، فالسرقة تبقى محرمة ومنبوذة، حتى وإن كانت لها أهداف خفية قد تبدو نبيلة، إلا أن الوسيلة تظل خاطئة… ولكن في نهاية الأمر، لم تكن يومًا ظالمًا لهم، ولم تؤذِ أحدًا منهم، بل كنت تضر من يكرهون ويمقتون.

ثم ألقى عليه نظرة جانبية قائلًا:

–     بعبارة أخرى، لم تكن لصًّا ضدهم، بل لصًا ضد أعدائهم.

ارتفع حاجبا فهد قليلًا وهو يرمقه بنظرة متأملة، ثم ابتسم ببطء وقال بسخرية:

–     يا سلام! يعني أصبحت هنا شخصية رمزية، نصف بطل، نصف مجرم؟ يبدو أني أعيش في رواية ذات حبكة معقدة!

ضحك أبو موسى، ثم التفت إلى أم موسى:

–     هل سنبقى نتحدث عني؟ أم أنك ستخبريني الحقيقة عن ناهد.

أم موسى:

–     سأحضر لكم الطعام أولًا، هذا ليس مما يقال على عجل.

راقبها فهد وهي تدخل إلى المطبخ، ثم ألقى نظرة جانبية إلى أبو موسى، الذي اكتفى بهزّ كتفيه وكأنه يقول له “لا فائدة من الاستعجال، من الأفضل أن تنتظر”!

وبعد مدة، بدأ فهد يشتم رائحة لم يشمها منذ سنوات طوال رائحة تأخذه في رحلة عبر الزمن، تعود به إلى أيام الطفولة ووجبات كانت تُعد بحب وصبر، وكأنها إعلان رسمي عن اقتراب طبق دسم من مستوى آخر!

لم يمضِ وقت طويل حتى عادت أم موسى تحمل صينية كبيرة، وضعَتها أمامهما بحركة خبيرة، فامتلأ المكان برائحة كبسة كراعين البقر الذائبة، التقطت ماعون الدهن العداني بيدها وسكبته فوقها بحركة متقنة، فبدأ السطح يلمع، وتغلغلت الرائحة الدسمة أكثر في الأجواء، حتى أن فهد شعر وكأن شهيته- التي ماتت منذ سنوات- قد عادت للحياة فجأة.

بعد أن انتهوا من تناول الطعام، وأحضرت لهما أم موسى الشاي، بدأ الجو يأخذ منحى أكثر جدية. كانت نظرات فهد مركزة، مترقبة.

تنهدت أم موسى بعمق، ثم بدأت تشرح له ما جرى لعوض، وكيف تورط في دوامة الديون، بسبب الأقساط المتراكمة التي لم يستطع سدادها. حكت له عن شرط أبي مشاري التعجيزي، وكيف فرض عليه دفع المبلغ كاملًا خلال أسبوع، وإلا سيأخذ ابنته ناهد للعمل لصالحه! حاول عوض المستحيل، ولكنه فشل في جمع المبلغ المطلوب، وهكذا انتهى الأمر بأن تصبح ناهد أسيرة في فندق أبو مشاري، تعمل قسرًا دون مقابل، مقابل عدم توريط والدها في الشيكات التي وقعها دون أن يدرك حجم الفخ الذي وقع فيه.

صمتت أم موسى قليلًا، ثم أضافت:

–     لقد فرض عليها أن تعمل لديه لمدة ست سنوات متواصلة، دون قيد أو شرط، كأنها عبدة في قصره، لا تستطيع المغادرة، ولا تجرؤ حتى على التذمر.

لم يعلق فهد على الفور، اكتفى بتشبيك أصابعه، كان هناك شيء آخر يدور في ذهنه. ثم رفع عينيه وسأل بنبرة هادئة ولكنها حادة:

–     علمت أن هناك أمرًا غريبًا عندما وجدت الحلوى التي صنعتها ناهد.

توقف قليلًا، كأنه يعيد ترتيب أفكاره، ثم أكمل:

–     مذاقها لم يكن عاديًا، لقد أعادتني بالذاكرة إلى الحلوى التي كانت تصنعها والدتها كان هناك شيء مألوف جدًا في طريقتها، حتى التوازن بين القرفة والحليب، لا يمكن أن يكون ذلك صدفة.

ثم التفت إلى أم موسى مباشرة، محدقًا فيها وكأنه يبحث عن تأكيد لما بدأ يشتبه به:

–     لاحظت عدم وجودها في منزل عوض… ماذا جرى لها؟

ساد الصمت للحظة، أطلقت أم موسى زفرة طويلة، كأنها تتهيأ لقول شيء مؤلم، ثم قالت بصوت منخفض، ولكنه محمل بثقل السنين:

–     أم ناهد لم تعد موجودة.

ظل فهد يحدق فيها دون أن يعلق، كان ينتظر منها أن تكمل، فأردفت أم موسى:

–     قُتِلت قبل ثماني سنوات، أثناء الهجوم الإرهابي على دور العبادة.

اتسعت عينا فهد قليلًا، فاسترسلت أم موسى:

–     كانت خارجة من جامع القرية بعد أداء الصلاة، عندما هجمت مجموعة مسلحة، أطلقوا النار عشوائيًا على المصلين، وصيحات التكبير تعلو أصوات الرصاص. لم يكن هناك تمييز، رجال، نساء، أطفال… سقطوا دون ذنب. كانت زوجة عوض من بين الضحايا.

خفض فهد نظره قليلًا، ثم تنفس ببطء وهو يحاول استيعاب التفاصيل، قبل أن يقول بصوت شبه هامس:

–     إذن كانت من بين ضحايا تلك الموجة!

تبادلت أم موسى وأبو موسى نظرات سريعة، قبل أن تقول أم موسى بصوت خافت:

–     والدتك لم تخبرك، صحيح؟

لم يُجب فهد، فاكتفى بالتحديق بصمت، منتظرًا أن تكمل حديثها:

–     كنت أظن أنك قد عرفت بالأمر من قبل… ولكنها لم تكن أخبارًا يسهل تداولها، خصوصًا في ذلك الوقت. ثم ربما لم تكن والدتك تريد أن تزيد عليك الهموم وأنت في السجن. كنتَ تعلم بالموجة، ولكنك لم تكن تعلم أنها كانت من بين الضحايا. لعلها رأت أن معرفتك بالحدث ككل تكفي، وأن تفاصيله لن تغيّر شيئًا في وضعك. ربما كانت تريد أن تؤجل هذا الحزن إلى حين تستطيع مواجهته.

ظل فهد صامتًا للحظات، زفر بهدوء وأغمض عينيه، كما لو كان يحاول استيعاب الأمر بطريقته الخاصة. ثم فتح عينيه فجأة وقال.

–     ولكن إذا كانت أم ناهد قد قُتلت قبل ثماني سنوات، فما وضع ذلك الصغير الذي رأيته في منزل عوض؟ كان بالكاد في السادسة وأخوه الأصغر منه؟ من أين جاءا؟

تبادل أبو موسى وأم موسى نظرات سريعة، ثم زفرت أم موسى بتعب، وقالت بصوت منخفض:

–     الطفلان ليسا من زوجته الأولى بعد سنوات من مقتلها، اضطر عوض للزواج مجددًا. لم يكن يريد ذلك، ولكن الحياة فرضت عليه الأمر، خاصة بعد أن بدأ ينهار نفسيًا. ظن أن الزواج قد يعيد شيئًا من الاستقرار إلى بيته، ولكنها لم تكن سوى محطة عابرة في حياته!

توقفت للحظة، ثم تابعت بصوت أكثر هدوءًا:

–     لم تحتمل فقره وسوء تدبيره، فهي لم تكن مستعدة للتضحية براحتها من أجل رجل يغرق في مشاكله، قررت ببساطة أن تنقذ نفسها قبل أن تغرق معه.

صمت فهد للحظة، ثم أردف بصوت أكثر جفاءً، كأنه يتحدث عن حقيقة لا جدوى من الغضب عليها:

–     والدتي فعلًا لم تستطع البوح بالكثير من التفاصيل لأن الوضع كان حساسًا للغاية، ومع ذلك، لاحظت الحزن المشوب بالغضب على وجهها بعد حادثة الهجوم على جامع القرية. لم تخبرني بأي شيء مباشر، ولكنني شعرت أنها تحمل كلامًا كثيرًا لا تستطيع التفوه به.

ثم استقام قليلًا في جلسته، وأردف بصوت أكثر عمقًا:

–     لم يكن الخطر الحقيقي في أولئك الذين نفذوها، بل في من حرّكهم من وراء الستار… أولئك الذين يجلسون في الظل، يحرّكون الخيوط، يشعلون الفتن، ثم يشاهدون الحريق تلتهم كل شيء، بينما هم يحتسون قهوتهم الفاخرة.

ابتسم بسخرية قاتمة، ثم نظر إلى أم موسى نظرة جانبية:

–     تجدين بعضهم يذرفون الدموع في المؤتمرات، يلقون خطبًا عصماء عن “مكافحة التطرف” بينما هم يمولونها، ثم يوقعون عقودًا بالملايين وربما المليارات بحجة مكافحتهم لها، تجارة رابحة، أليس كذلك؟!

ثم بات يحدق في كوب الشاي الأحمر بين يديه، وكأنه يحدّق في مرآة تعكس حجم العبثية في هذا العالم:

–     موت مجاني وأرباح بالمليارات. يبدو أن الإنسان هو الاستثمار الأكثر ربحًا عندما يكون مجرد رقم في قائمة الضحايا!

أبو موسى، وهو يضع كوب الشاي جانبًا وينظر إلى فهد نظرة متوجسة:

–     لا تقل لي أن صاحبك اللدود منهم!!

فهد، وهو يميل بظهره إلى الوراء واضعًا ساقًا فوق الأخرى، قبل أن يرد بنبرة ساخرة، ولكنها تحمل في طياتها قناعة مريرة:

–     هذا ما حاولت والدتي قوله لي كنا نتبادل لغة مشفرة نفهمها دون أن يستوعبها حراس السجن. ما فهمته منها أنها اقتحمت مكتب أبي مشاري وواجهته بذلك، كانت متأكدة تمامًا من أنه المحرّض وراء الموجة… حتى لو لم يكن لدينا دليل قاطع بعد على تورطه المباشر في الموجة التي اجتاحت المنطقة آنذاك.

رفع حاجبه بتهكم وأردف:

–     المنتفعون كُثر، يا عمّي، بعضهم يشعل الحرائق ليبيع طفايات الحريق بأضعاف سعرها… وأبو مشاري؟ ذاك لا يضيع فرصة للربح، سواء كان وقودها بشرًا أو حجارة.

صمت أبو موسى للحظات، ثم قال وهو يزن كلماته بعناية كونها تحمل قيماً متناقضة:

–     مع أنني لا أؤيد بعض ممارساتك، يا بني، إلا أنني لا أنكر أن الكثيرين هنا يرون فيك بارقة أمل. أبو مشاري وأمثاله لم يضع يده على بيت إلا ودمره، ولم يترك رقبة إلا ووضع حولها قيدًا. نحن نعرف من هو … ولكن هل يمكن التخلص منه؟

رفع فهد كوب الشاي إلى شفتيه، ارتشف منه ببطء، ثم وضعه على الطاولة برفق قبل أن يجيب، وكأنه يقيّم الاحتمالات في رأسه:

–     لا شيء مستحيل، ولكنه أيضًا ليس بهذه السهولة. إسقاطه سيكلّف أثمانًا باهظة، ويتطلب نفسًا طويلًا مثله لا يسقط بضربة واحدة، بل بحرب استنزاف بطيئة، تضعفه حتى ينهار من تلقاء نفسه.

ابتسم ابتسامة جانبية، وكأنه يرى المشهد مرسومة في ذهنه:

–     الحصون الكبيرة لا تنهار بجرافة، بل تسقط عندما تبدأ الفئران في حفر أساساتها ببطء بصبر حتى يأتي اليوم الذي ينهار فيه الجدار كله دفعة واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى