اضربها في الخلاط

ياسر بوصالح
في علم الكيمياء، الماء هو مزيج بين ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأكسجين، وفي عالم الألوان، خلط الأبيض بالأسود ينتج لونًا رماديًا، بل حتى فن الطهي، خلط الزبدة مع الدقيق يمنحنا مخبوزات لذيذة.
و ينسب إلى امير المؤمنين عليه السلام في هذا السياق هذا البيت الشعري:
خذ الفرار والطلقا وشيء يشبه البرقا
فان أحسنت مزجهما ملكت الغرب والشرقا
هذه المقدمة ليست مجرد استعراض معلوماتي، بل دعوة للتأمل في طبيعة الحياة القائمة على التفاعل والامتزاج، كما يُقال في عالم العصائر: “أحضر المكونات واضربها في الخلاط!”
لذلك، ينبغي أن نطبّق هذه القاعدة في قراءاتنا وتأملاتنا، فنمزج المعاني ونحللها من زوايا متعددة. ولهذا، سأختار ثلاث كلمات من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، تتقاطع —ولو من بعيد— مع فكرة “الضرب في الخلاط”، حيث تتكامل فيما بينها لتشكل منهجًا متكاملًا في التفكير واتخاذ القرار.
١- (اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب)
هذه الحكمة تدعو إلى تلاقح الأفكار وتفاعل الآراء للوصول إلى الحقيقة.
(اضربوا بعض الرأي ببعض) لا تعني الضرب الفعلي، بل المقارنة والتفاعل الفكري، بحيث تتقابل وجهات النظر المختلفة، فيتم اختبار مدى قوتها وضعفها.
(يتولد منه الصواب) تشير إلى أن القرار الصحيح لا ينبثق من رأي واحد، بل من عملية التفاعل بين الآراء المختلفة، مما يساعد في تصحيح الأخطاء وتوضيح الرؤى.
هذه الحكمة تعكس منهجًا متقدمًا في التفكير النقدي، إذ لا ينبغي الاعتماد على رأي واحد دون النظر إلى البدائل وتحليلها بعمق، فالنقاش يكشف الجوانب المخفية ويدفع نحو الاستنتاج السليم.
٢- (امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء)
هذه الحكمة تقارن عملية تمحيص الأفكار بعملية مخض السقاء (وعاء اللبن)، حيث يُهز بقوة لفصل اللبن عن الزبدة، أي أن الرأي يحتاج إلى اختبار دقيق وتنقيح مستمر.
)امخضوا الرأي مخض السقاء) تعني إخضاع الأفكار للتحليل العميق قبل اعتمادها.
)ينتج سديد الآراء( أي أن النتيجة بعد عملية التنقيح تكون رأيًا ناضجًا وخاليًا من الشوائب والسطحية، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات حكيمة.
الحكمة هنا تؤكد أن الرأي السديد لا يولد جاهزًا، بل يتطلب غربلة وتحليلًا، مثلما يتم فصل الزبدة من اللبن عبر المخض المستمر.
٣- ( رأي الرجل على قدر تجربته)
هذه الحكمة تشير إلى الارتباط الوثيق بين جودة الرأي والتجربة الشخصية، فكلما زادت خبرات الإنسان، زادت دقة آرائه واتسعت رؤيته.
(رأي الرجل) يعبر عن وجهة نظره وحكمه على الأمور.
(على قدر تجربته) تعني أن نضوج الرأي يعتمد على كمية ونوعية التجارب التي خاضها الإنسان، حيث تمنحه قدرة أكبر على الفهم العميق واتخاذ القرارات السليمة.
هذه الحكمة تلفت النظر إلى أن الرأي لا يُبنى على المعرفة النظرية فقط، بل على التجربة العملية، فالشخص الذي خاض تحديات عديدة يكون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات صائبة مقارنةً بشخص قليل الخبرة.
بعد ضرب هذه الكلمات الثلاث في الخلاط الفكري – أن صح التعبير -، نجد أن الترتيب الزمني المنطقي يفترض أن يكون كالتالي:
(رأي الرجل على قدر تجربته: (تبدأ الرحلة بالتجربة، إذ يحتاج الإنسان إلى تراكم الخبرات ليتمكن من تشكيل رؤيته الخاصة.
(اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب) بعد أن يكتسب الإنسان التجارب، يحاور العقلاء، ويبحر في عقولهم المختلفة لتوسيع فهمه.
) امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء ( بعد تلاقح الأفكار وتفاعلها، تأتي مرحلة الغربلة والتمحيص، حيث يُنتج الرأي السديد بعد الفحص العميق.
الخاتمة:
دعوة إلى التفكير المركّب إن كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ليست مجرد نصوص، بل هي منهج فكري يدعونا إلى تحليل كل فكرة على حدة، ثم مزجها مع غيرها لنستخرج أفضل النتائج.
لذلك، أدعو القرّاء إلى تبنّي أسلوب الضرب في الخلاط الفكري، بحيث يتم تحليل النصوص منفردة، ثم دمجها مع بعضها البعض للوصول إلى أقصى استفادة ممكنة. وفي هذا السياق، أشيد بكتاب ميزان الحكمة للعلامة محمد محمدي الريشهري، الذي يُعد أحد أبرز الموسوعات الحديثية، حيث جمع بين الدقة العلمية والتنظيم الموضوعي، ليقدم نظرة شاملة لتعاليم الإسلام من خلال القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام
إن التفكير المركّب ليس مجرد رفاهية، بل هو حاجة ضرورية لفهم الحياة واتخاذ قرارات سليمة. فلنبدأ رحلة البحث والتدقيق، ولنضرب أفكارنا في الخلاط لنستخلص منها الحكمة الأعمق!