أقلام

قيادة الروح والعقل: كيف يصنعك الإمام الرضا قائدًا

أحمد الطويل

مقدمة:

في يومٍ من أيام النور، الحادي عشر من ذي القعدة 148هـ، وُلد في المدينة المنورة نورٌ جديد من أنوار آل محمد: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. لم تكن ولادته حدثًا عاديًا، بل إشعارًا من السماء أن مشروع الهداية لا ينتهي، وأن قيادة الأمة لا بد أن تبقى متصلة بحبل الله المتين.

قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73). هذه ليست مجرد قيادة دنيوية، بل دور ربّاني يتطلب طهارة القلب، ووضوح الرؤية، وحكمة في لحظات التوتر.

هل يمكن أن أكون قائدًا مثل الإمام؟

نعم. ولكن كيف؟ الإمام الرضا لم يولد قائدًا فقط، بل بنى نفسه ليكون كذلك. وها أنت، أيها القارئ، تملك البذرة نفسها: عقلٌ، وضميرٌ، وقدرة على التأثير.

القيادة عند الإمام ليست منصبًا، بل حالة وعي ومسؤولية. وهذا المعنى هو ما عبّرت عنه الإمامية بوضوح: “الإمام هو الإنسان الكامل، القائم بأمر الله، الحافظ لدينه، والهادي بسنته، المتمّم لمسيرة النبوة.”

اختبار السلطة أم اختبار المبادئ؟

عندما عرض المأمون ولاية العهد على الإمام الرضا، كان يعلم أنه لا يقدّم عرضًا سياسيًا فقط، بل يختبر عمق ثبات هذا الرجل. والإمام… رفض. ثم، بعد الإصرار والتهديد، قبل بشروط لا تُبقي له سلطة حقيقية، فقط اسمه ضمن الدولة.

لماذا؟ لأنه أراد أن يحوّل الكرسي إلى منبر، والسلطة إلى رسالة، والموقف إلى مدرسة.

قال الإمام: “إنّي دخلت في هذا الأمر دخولَ مَن خرج منه.”

يا لها من عبارة! لقد دخل ليُخرج الناس، لا ليبقى هو في دائرة النفوذ. هذه هي القيادة المتعالية على الذات.

قوة الحوار: الإمام والمناظرة الكبرى

لماذا لقّبوه بـ”عالم آل محمد”؟ لأن سلاحه كان العقل. لقد وقف أمام علماء النصارى واليهود والمجوس، وكل مَن دعاهم المأمون، وكان يُفحمهم بالحجة ليس بالسيف، بالآية وليس بالتهديد، بالحكمة وليس بالصوت العالي.

قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: 125).

ومن هذا الباب، كان الإمام الرضا يفتح عقول الناس، ولا يُغلقها. فكر الإمام كان قائمًا على ما يسميه الفلاسفة: الحق المبرهن بالعقل والنقل.

قال عليه السلام: “الناس لا يسألون إلا عن ظواهر العلم، فأما حقيقته فلا يعرفها إلا عارفٌ بالله.”

الولاية كارتباط بين الأرض والسماء

من منظور الشيعة الإمامية، فإن الولاية هي ركيزة لا انفكاك لها عن الإمامة، وهي ليست مجرد محبة، بل اتباع وتسليم وارتباط. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55).

وقد أجمع المفسرون من الشيعة أن هذه الآية نزلت في الإمام علي عليه السلام. فالإمامة إلهية التعيين، عقلانية الفهم، روحية التأثير.

يرى الفلاسفة الإلهيون، كما في نهج السيد مير باقري أن الولاية تمثّل الرابط الحضاري بين الإنسان والسماء. وهي نوع من القيادة الوجودية التي تحفظ التوازن بين الحق والواقع.

متى يكون الإنسان قائدًا؟

أنت لا تحتاج سلطة لتكون قائدًا. الإمام الرضا قاد وهو محاصر. ألهم وهو مُراقب. غيّر عقول أجيال، وهو لا يملك جيشًا.

القيادة تبدأ من قرار داخلي: أن تكون صادقًا، واضحًا، مستقيمًا، حكيمًا.

أن تؤثر من موقعك، كما أثّر الإمام من مكانه. أن تفكر كقائد، فتتحدث بعقل، وتعمل بقلب، وتصمت بحكمة.

الخلاصة:

تعلّم أن تكون “رضا” في زمنك.

إن الإمام الرضا عليه السلام لا يدعوك لأن تحفظ أقواله، بل لأن تعيشها.

أن تكون قائدًا بروحك، ومُصلحًا بكلمتك، وصاحب بصيرة في وقت العتمة. أن تقبل التحدي كما قبله، وتحفظ المبادئ في زحمة السياسة والمصالح.

من أراد أن يقود غيره، فليبدأ أولًا بقيادة نفسه.

ومن أحبّ الإمام، فليتشبّه به.

اللهم اجعلنا ممن يقتدي بالإمام الرضا عليه السلام، في علمه وثباته وبصيرته، اللهم ارزقنا نور الولاية، وقوة الإيمان، وصفاء النية. اللهم ثبّتنا على حب محمد وآله، وفقنا لنكون دعاة للحق، وهدى للناس، وأعوانًا لدينك في كل زمان ومكان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى