حين جلس الغريب على الكرسي الخطأ

عماد آل عبيدان
كان ظهري ينطق بالتعب بصوتٍ أعلى من صمتي، حين دخلتُ قاعة الانتظار بالمطار المحليّ، متأبطًا حقيبة سفر صغيرة لا تكاد تسع قميصًا نجا من الكيّ. لم أكن أسافر كثيرًا، وليس من طبعي البحث عن النوافذ المطلة على الغيم، ولكن بعض الأمور في الحياة لا تُستشار، كالسفر المفاجئ، والمصادفات المُربكة، والأشخاص الذين يجلسون بالخطأ في المقعد المخصص لك.
حين وصلتُ إلى مقعدي، وجدته مشغولًا برجل خمسينيّ يبدو عليه أثر السفر أكثر مما يبدو عليه أثر الوجهة. نظرة واحدة كانت كفيلة بأن تخبرني أنه ليس من نوع الرجال الذين يسهل مناقشتهم، فبدلًا من أن أخبره بأنه يحتل مقعدي، جلستُ في الكرسي المجاور والكرسي المجاور لا يكون فارغًا أبدًا دون سبب، هذه قاعدة مجرّبة.
لم يستغرق الرجل وقتًا طويلًا ليبدأ الحديث، ليس من باب اللطافة، بل من باب الضرورة. كان يحمل في جيبه قصة، وفي جيبه الآخر سعالًا خفيفًا لا يعرف له دواء. قال لي بصوت واثق كأننا نعرف بعضنا من سنوات:
“تعرف يا ولدي في صالة الانتظار هذه بالذات، تغيّرت حياتي مرتين.”
لم أكن في مزاج الفلسفة، ولكني كنت في مزاج البشر البشر حين يكونون في لحظة صمت طويلة يحتاجون من يقطعها بكلمة، أية كلمة. فقلت: “مرتين؟! هنيئًا لصالة الانتظار إذًن لم تغيّر حياتي حتى محطة بنزين.”
ضحك ضحكة من لا يجد فرقًا كبيرًا بين السخرية والصدق، ثم بدأ الحكاية.
قال: “كنت قبل خمسة وعشرين عامًا شابًا ممتلئًا بالحلم والخوف، أركض بين وظائف لا تليق بي، وبين علاقات لا تليق بغيري، وبين أمّ تنتظر منّي أكثر مما أستطيع. وجدت إعلانًا عن فرصة عمل في مدينة بعيدة، وكان عليّ أن أستقلّ أول طائرة تغادر فجرًا. وصلت المطار متأخرًا، تفوّق الزحام على مزاجي، وضاع رقم البوابة مني كما تضيع النوايا الطيبة في الزحام. في لحظة توتر وسهو، جلست في مقعد خطأ، بجوار سيدة يبدو عليها الهدوء كأنها خرجت من لوحة زيتية.”
توقف قليلاً، ثم تنهد كأنه يتذوق الذكرى. “لم تكن تعرف أين تسافر، كانت فقط تود أن تبتعد عن كل شيء. بدأنا الحديث، ليس كغريبين، بل كأننا فقدنا بعضنا في عمرٍ سابق.”
ابتلعتُ دهشتي كما يبتلع المسافر حبوب الدوار، وقلت له: “ثم ماذا؟”
قال: “كانت بداية كل شيء. تزوجنا بعد سنة، أسست معها شركة صغيرة انطلقت من الصفر، وها أنا أملك اليوم سبع فروع في ثلاث دول، ولكن…”
رفع إصبعه كأنّه يعلّق على مشهد لم يُعرض بعد.
ولكن كل شيء بدأ من كرسي جلستُ عليه بالغلط.”
ابتسم، لا ليؤكد الحكاية، بل ليختصر بها عمرًا كاملًا من المصادفات.
ثم أردف، وهو يفتّش في جيب سترته عن شيء ما كأنما يتحقق من ذاكرته:
“تدري يا ولدي في الحياة، هناك كراسي نختارها بأنفسنا، وهناك كراسي تختارنا قبل أن نصل… هذا الكرسي يومها لم يكن خطأ، كان تصحيحًا لمسار عمر كامل لم أكن فيه في مكاني.”
أخرج من جيبه تذكرة سفر قديمة، مصفرّة الأطراف، عليها اسم وجهة لم أسمع بها من قبل، نظر إليها طويلًا، ثم أعادها إلى جيبه كما يُعيد الإنسان سرًا إلى صدره.
قلتُ له وأنا أراقب حنجرته تهتز بثقل الذكرى:
“وهل كانت الحياة سهلة بعد ذلك؟”
ضحك ضحكة لم أفهم إن كانت حزينة أم مرهقة أم كليهما، ثم قال:
“سهلة؟! لا يا بني بل كانت صادقة. وهذا وحده يكفي. صدق التجربة أهم من رفاهية العيش، تمامًا كما أن وضوح الشقاء خير من بهرج الوهم.”
ثم تنحنح، ومسح جبينه بمنديل مطويّ بعناية. وقال كأنه يعترف بشيء:
“بعد عشرين عامًا من تلك البداية، فقدت زوجتي في حادث لم يكن فيه أحد مذنبًا. ورجعتُ لنفس صالة الانتظار، في نفس الكرسي، لا لأنتظر طائرة هذه المرة، بل لأنتظر أن تفتح الحياة نافذة صغيرة تقول لي: ما زلتَ قادرًا على البداية.”
صمت قليلًا، ثم تمتم كمن يهمس لنفسه:
“وهناك، في ذات اللحظة، جلست فتاة شابة في المقعد المجاور، كانت تبكي بصمت، تحمل حقيبة صغيرة وصورة ممزقة لطليقها.”
نظرتُ إليه بدهشة، كأنني على مشارف أن أقول: “لا تقل أنك”
فقاطعني ضاحكًا:
“لا يا ولدي، لا تقلق. لم أتزوجها، ولم نفتح شركة، ولم أُسافر إلى النرويج. فقط أعطيتها منديلي، وقلت لها جملة واحدة: لا تدعي الكرسي الخطأ يمنعكِ من الوصول إلى الوجهة الصحيحة.”
ثم تنهد وقال:
“وأنا أيضًا… لم أصل بعد، ولكنني على الطريق، على الدوام على الطريق.”
أعلنت الشاشة أخيرًا رحلتي، فوقفت بتثاقل خفيف، وشكرته دون أن أعرف على ماذا تحديدًا، ربما شكرته لأنه شغل المقعد “الخطأ”، أو لأنه أزال عن السفر غربته، أو لأنه منحني قصة دون أن يطلب شيئًا.
مددت يدي لأصافحه، ولكنه قال قبل أن أرحل:
“حين تصل، لا تبحث كثيرًا عن المقعد الصحيح. اجلس حيث تشعر أن في الكرسي ذاكرة. فالذاكرة هي أكثر ما يجعل المقعد صالحًا للعيش، لا الرقم.”
غادرت وأنا أفكر:
كم من حكاية في هذا العالم بدأت حين جلس أحدهم في الكرسي الخطأ…
وكم من حياة توقفت، فقط لأننا أصررنا أن نكون على الكرسي “الصحيح”.