أقلام

العلماء Navigation

ياسر بوصالح

في إحدى ليالي الجمعة، كنت حاضرًا في مجلس سماحة العلامة الشيخ حسن الصفار الأسبوعي، ذلك الديوان المميز الذي يجمع بين الفكر والثقافة والعلم. يمتاز الشيخ بعفويته الآسرة وبديهته الحاضرة، حيث يُدهشك بقدرته على تمرير الطرائف المرحة دون ابتذال، والإجابة عن الأسئلة بأسلوب موسوعي، يجعلك تتساءل إن كان قد أعدّ لكل سؤال جوابًا مسبقًا.

لكن سرعان ما يتلاشى هذا الظن حين تراه يوزّع ابتساماته الرقيقة على الجميع، ويقوم احترامًا للصغير قبل الكبير. باختصار، هذا المجلس الأسبوعي أشبه بمدرسة، لا تقتصر فائدتها على العلوم والمعرفة، بل تمتد إلى مكاسب أخلاقية عميقة. وإن غاب جسدي عن الحضور، فإن روحي تبقى مرفرفة حوله، متلهفةً لما فاتني من دروس ومعانٍ. ولا أريد أن أطيل الحديث عن فضل هذا العالم الجليل، فمثلي لا يبلغ مقام تقييم هذا الطود الشامخ. وكما قال دريد بن الصمة:

إذا لم تستطع شيئًا فدعهُ وجاوزهُ إلى ما تستطيعُ

أتذكر أن أحد الحاضرين طرح سؤالًا مفاده: ما جدوى هذه المحاضرات في الحسينيات والمساجد إذا لم ينعكس أثرها على الأخلاق العامة في المجتمع؟ فأجابه سماحة الشيخ بجوابٍ نقضيٍّ كما يُقال في الحوزة، قائلاً: “وما جدوى كثرة المستشفيات إن لم تعالج الأمراض؟”

ردّ السائل قائلاً إن المستشفيات جزءٌ من الحل وليست الحل كله، وإن العلاج يبدأ بالوقاية. وهنا ابتسم الشيخ، ثم انتقل إلى الجواب الحلّي، قائلاً: “كذلك هو دور المحاضرات في المنابر الحسينية والخطب في صلاة الجمعة؛ فهي إرشادٌ وقائيٌّ من جهة، ومساهمةٌ في التوجيه والعلاج لمشاكل المجتمع من جهة أخرى.”

ثم أضاف سماحة الشيخ فكرةً عميقةً: “دور العلماء أشبه بدور الملاحة Navigation؛ فكما أن أنظمة الملاحة تستمر في إرشادك إلى وجهتك مهما أخطأت الطريق، كذلك العلماء يواصلون توجيه الناس دون أن يعاتبوهم أو يحاسبوهم. فهم أدوات هداية وإصلاح، لا أدوات توبيخ ومحاسبة.”

هنا وجدت نفسي في حالة أقرب إلى اللا سلم واللا حرب؛ فمن جهة، كنت مستمتعًا بهذا الحوار الرائع، حيث جيش عقلي ينصت بإذعان، ومن جهة أخرى، كان جيش العقل الآخر يحلل بعمق حديث الإمام الصادق (عليه السلام):

“العالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس.”

المقصود بـ”العالم بزمانه” ليس فقط العارف بالعلوم الدينية، بل الإنسان الذي يمتلك بصيرة نافذة في فهم الواقع، مدركًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية. هذا العالم لا يقف عند حدود الكتب، بل يراقب بذكاءٍ تحولات العقول وأنماط الحياة والتحديات الجديدة التي لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة. أما “اللوابس”، فهي الأمور الملتبسة التي قد تضلّل الإنسان أو توقعه في الخطأ. فمن لم يكن عالمًا بزمانه، قد تغلبه الفتن الفكرية والشبهات المستحدثة، مما يجعله عرضةً للالتباس أو حتى تبني مفاهيم مغلوطة.

لكن الإنسان المتبصر بزمانه لا يقع ضحية لهذه الالتباسات؛ فهو يمتلك أدوات التحليل التي تجعله قادرًا على تفكيك الغموض، وفهم ما وراء التحولات الفكرية والاجتماعية، فلا تؤثر فيه الدعايات المغرضة، ولا ينجرّ وراء الموجات الفكرية دون تمحيص. وكما قال الإمام علي (عليه السلام): “ظن العاقل كهانة.”

الخلاصة

العالم الحقيقي ليس مجرد ناقلٍ للمعرفة، بل هو مدركٌ لزمانه، ولتحديات الناس وأفكارهم، مما يجعله قادرًا على توجيه المجتمع بفعالية. وكما أن أنظمة الملاحة لا تقتصر على الطرق التقليدية، بل تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحديثة كازدحام الطرق والعقبات الطارئة، كذلك العلماء يدركون العقبات الفكرية والاجتماعية المستجدة ويرشدون الناس بتوجيهات معاصرة.

وهذا يبرر لماذا يجب أن يكون العالم متجددًا في فهمه، مستوعبًا لمتطلبات الزمن، وإلا فإنه قد يصبح عاجزًا عن مواجهة الإشكالات الجديدة، وقد تهجم عليه اللوابس كما يُحذّر الحديث. والتاريخ خير شاهد؛ فمن فتنة المشروطة والمستبدة في العهد القاجاري، إلى الجدل حول خيرية أوده في الهند، نجد كيف يمكن للخلاف أن يحتدم بين أساطين العلم، وليس مجرد علماء عاديين.

وأختم: في كل زمان، نحتاج إلى العلماء الذين يدلّوننا على خارطة الطريق الحقيقية، ولعمري، ذلك هو الـ Navigation العلمائي الحقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى