أقلام

وعد الله إستحقاق أم تفضل؟!

أحمد الطويل

مقدمة:

حين تُفاجئك كلمة “الفضل”.

كم من مرّة التزمت بطاعة، وتحمّلت مشقة العبادة، ورفضت لذة محرّمة، ثم قيل لك: الثواب ليس استحقاقًا بل “فضل من الله”!

لحظة صادمة، كأنك كنت في سباقٍ طويل، ثم قيل لك عند خط النهاية: “لا ميدالية لك، هذه الهدايا نوزّعها متى نشاء!”

وهنا ينهض السؤال الذي لا مفر منه: هل أنا أُكافأ على الطاعة لأنني استحققتها، أم أن الله إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولا حقّ لي عليه في شيء؟!

السؤال عميق… وهو مدخل لفهم العلاقة بين الإنسان وربّه، بين العدالة والرحمة، بين الجهد والجزاء.

الذم والعقوبة هل يملك العقل حق الحكم؟

نحن نُدرك بالبداهة أن من يسرق أو يكذب يستحق الذمّ، وربما العقوبة، لكن هل هذا إدراك بشري صرف؟ أم أن الشرع وحده هو الذي يمنح هذه الأحكام معناها؟

الأشاعرة يذهبون إلى أن الذم والعقاب لا يُحكم بهما بالعقل، بل لا وجود للحسن والقبح في الأفعال إلا بنصٍ شرعي. فلو لم يُحرِّم الله الكذب، لما كان قبيحًا، ولما استحق فاعله عقابًا أو حتى توبيخًا.

أما العدلية، ومنهم الإمامية، فيرون أن العقل قادر على التمييز. فالعقل يدرك قبح الظلم، ويمجّده حين يرى الصدق والعدل، وهذا الإدراك هو أساس بناء المسؤولية الأخلاقية.

ومن هنا يقولون: من يفعل قبيحًا، فهو مستحق للذم والعقاب لا لأن الشريعة فقط قالت ذلك، بل لأن العقل نفسه يرى ذلك مستحقًا. والله عز وجل، بما أنه حكيم وعادل، لا يُعاقب إلا على ما يستحق العقاب، ولا يذمّ إلا من فعل ما يستحق الذم.

والقرآن يؤيد هذا الموقف بجلاء: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم: ٣٥-٣٦).

فالعقل، قبل الشريعة، يرفض التسوية بين المطيع والعاصي، والقرآن يوبخ من لا يفرّق بينهما.

بين الفضل والاستحقاق، نزاع العقول

هنا يتدخل الشيخ المفيد، أحد أعمدة الكلام الإمامي، فيعلن رأيًا يبدو للوهلة الأولى شديد الورع: الثواب تفضل من الله، لا استحقاق للعبد فيه.

يقول: كيف يُقال إن المكلّف يستحق الثواب والله هو من أعانه على الطاعة وخلقه وقدّره وعلّمه؟! بل إن الله لو لم يُثبْه لما كان ظالمًا، لأن العبد لا يملك حقًا على الله.

لكن هذا الرأي، وإن بدا منسجمًا مع تنزيه الله عن الوجوب، يواجه اعتراضًا حاسمًا من جمهور العدلية: إن استحقاق الثواب ليس تحكمًا على الله، بل هو ثمرة عدله.

الله وعد، وهو لا يخلف الوعد، وعد بأن من أطاعه أثابه، ومن جاهد هواه كرّمه. وهذا الوعد، إذا نقض، يكون قبيحًا، والله لا يفعل القبيح.

بل كيف يستقيم العدل إذا ساوى الله بين من قضى ليله ساجدًا، ومن قضاه في لهوٍ ومعصية؟ كيف تُطمَس الفوارق، ولا يبقى للجهد قدر؟

الآية واضحة: ﴿هَلْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟﴾ (ص: ٢٨).

فالثواب إذًا ليس هدية عشوائية، بل هو نظام إلهي بُني على أساس الاستحقاق والعدل، والفضل فيه أن الله هو من رتّب هذا الجزاء، وجعل لأعمالنا قدرًا عنده.

سرّ الترك، لماذا لا يُثاب بعض التاركين للمعصية؟

قد يقول قائل: أنا لم أزْنِ، ولم أسرق، ولم أرتكب معصية كبرى. أين ثوابي؟

لكن الترك ليس كله واحدًا. هناك فرق بين من لم يفعل القبيح لأنه لم تُعرض عليه فرصة المعصية، أو لأنه لا يشتهيها أصلًا، وبين من قاوم الشهوة والتزم لأجل الله.

الأول يُدعى “الإخلال بالقبيح”، وهو أمر عدمي لا يُثاب عليه، أما الثاني فهو “فعل ضد القبيح”، وهو موقف وجودي اختياري يُثاب عليه الإنسان.

الله لا يُكافئ الفراغ، بل يُكافئ المجاهدة. والترك الذي يصدر عن علمٍ وميل إلى الطاعة، هو الذي يحظى عنده بمقام كريم.

الخلاصة:

العدل الإلهي لا يُساوي بين الصادق والمُفرّط.

الثواب عند أهل البيت عليهم السلام، كما في كلام الإمام الصادق عليه السلام: “من عمل بما عَلِم، ورّثه الله علم ما لم يعلم” (الوسائل، ج١، ص١٠٢). وهذا يدل على أن العمل يُورث جزاءً حقيقيًا، لا تفضلًا صِرفًا.

فلا تظن أن تعبك سيضيع، ولا تحسب أن مشقة طاعتك بلا مقابل، فإن عدل الله يحفظ كل دمعة، ويُثمّن كل مقاومة، ويُجزى عليها جُهدًا مضاعفًا.

من قال إنك لا تستحق، فقد غفل عن جوهر الدين: الله عدل، وعد، ووفى، والثواب هو صورة هذا الوفاء. نعم، الله كريم، لكنه أيضًا عادل، ومن عدله أن يضع الجزاء في موضعه، وأن يُكرم من اختاره على الهوى.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين عن عدلك، ولا من المتواكلين على منّتك دون سعي. اجعلنا ممن يُدرك أن الطاعة طريق، وأن الثواب وعد، وأنك لا تخلف الميعاد. ثبتنا على الحق، وألهمنا الإخلاص في العمل، وارزقنا استحقاق كرمك بلطفك، يا من لا يضيع عنده أجر المحسنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى