أقلام

غيبوبة

السيد فاضل آل درويش

قال تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }{ الفجر الآية ٢٤ }.

صورة مستقبلية متأخرة يبدي فيها الإنسان الواهم الندم على مسيرة عمره التي قضاها ضياعًا وخسارة لا تُعوّض، ومرد هذا الندم هو انكشاف الحقائق الثابتة والرصينة بعد انقشاع الغمامة عن البصر الحديدي، فالحياة الدنيا بما تحمله من زينة ومتاع وتفاصيل عاش عمره شغفًا ومتيّمًا بهواها قد بدت سرابًا تلاشى؛ ليظهر حقيقة أن الرصيد والعمر والمستقبل الحقيقي هي الدار الآخرة وليس ما امتلأ فؤاده حبًّا لها، فيتمنى حينئذٍ أن يكون قد فهم هذه الحقيقة الكبرى يوم كان بيده القدرة على العمل والتغيير ولكن لا حول له ولا فرصة متاحة، فالندم المجدي يأتي قبل استنفاذ دقائق العمر وإمكانية أن يصحح أخطاءه وينهض مجددًا، وهذه اللفتة للتحذير من الوقوع في حفرة المكر والخداع من فاتنة القلوب (الدنيا).

لا مقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الأخروية فالأولى عمارها منتهٍ بالخراب والانتهاء بينما الأخرى هي الدوام الذي لا انقضاء له، والحياة الدنيا للإنسان فيها دور وظيفي محدد وهو العمل وفق ورقة الاختبار والجزاء على ما يقدّم فيها من عمل، وهذه الومضة الفكرية تنير دربه ومسيره للحركة نحو التكامل التربوي واكتساب الفضائل والتنزه عن منزلقات الأهواء، وفي الدار الباقية سيكون تحديد مصيره ومكانه وفقًا لما عمل في دنياه حيث الأثر والنتائج، وآه ثم آه من أولئك الذين عاشوا الوهم وتناسوا الهدف الأسمى من خلق الإنسان المكرّم في عقله ونفسه، فعاثوا الخراب والدمار لأنفسهم حيث أوقعوها في مصير قاتم لا يليق بها لو بقت على الفطرة السليمة ولتحاشت مأوى المقصّرين والمعاندين للحقائق، ولا ينفع إدراك الحقيقة في غير محلها عندما تتبدّى الحقائق الأخروية، فالألم النفسي حينئذ لون من ألوان العذاب حيث يطهر له الخسران المبين وهو مفلس لا يمتلك في رصيده الحقيقي شيئًا من الأعمال الصالحة، فكم من الفرص المتجدّدة التي تضيع وتتسرّب من بين أيدينا ونحن في حالة غفلة و انشغال بملذات الدنيا دون استعداد للحياة الدائمة !!

تقديم هذه الصورة المستقبلية في ذلك اليوم العظيم (يوم الحساب والجزاء) إثارة للنفس اليقظة والواعية بالمخاطر والمساقط المستنقعية، وهو ما يحفّزه نحو التحرك في المدار المفيد وهو العمل الصالح وإدراك عواقب ونتائج الأمور قبل التحرّك والإقدام على أي خطوة أو التفوّه بأية كلمة، فالفوز المبين سيكون لمن استعدّ وتأهّب لفتح صحيفة أعماله والمحاسبة عليها، فمتى ما عاش المرء حقيقة المجازاة على ما يقدّم في الدنيا فسيكون ذلك رادعًا وحاجزًا له من الانخراط في الأعمال المضيّعة لجهوده.

هذه الإثارة الفكرية تدعو الإنسان لإعادة طريقة تفكيره نحو بوصلة العمل الجاد في طريق الخير والصلاح والمعروف، والندم الحقيقي والمفيد هو الإقلاع عن تسلسل الخطايا والاعتراف بسوء الحال، والتوازن بين الحاجات المادية والروحية وتقسيم الأوقات بينها طريق الإنسان نحو الإنجاز والنجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى