دحو الأرض انبثاق الحياة من رحم الإرادة الإلهية

أحمد الطويل: الدمام
التعريف اللغوي والاصطلاحي
“الدحو” لغةً هو البسط والتمهيد، تقول العرب: “دحا الأرض”، أي سوّاها وهيّأها. أما اصطلاحًا في القرآن والروايات، فالدحو هو المرحلة التي بُسطت فيها الأرض بعد أن كانت كتلة غير صالحة للسكن، فظهرت اليابسة، وانفجرت العيون، وتجلّت قدرة الله في تهيئتها للحياة. قال تعالى: ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ (النازعات: 30)، إشارةً إلى هذه اللحظة المصيرية.
مقدمة:
حين ابتسمت الأرض للوجود. في البدء، حيث كانت الأرض كيانًا غامضًا يسبح في ظلمة الفضاء، أصدر الخالق أمره الأزلي: “اِبتَسِمْ يا أرضُ للوجود!” وفي لحظة واحدة، تبدّل السكون إلى حياة، والغموض إلى نظام، والفوضى إلى تناغم. إن يوم دحو الأرض، الموافق 25 من ذي القعدة، ليس مجرد واقعة كونية تتعلق بجيولوجيا الأرض، بل هو لحظة تجلت فيها حكمة الله في التكوين، وجُعلت الأرض مهدًا لعباده، وحاضنةً للعبادة والإيمان. فكيف تحدّث القرآن عن هذا اليوم؟ وماذا قال أهل بيت النبوة عن أسراره؟ وما هي الدلالات الفلسفية والعقائدية الكامنة خلف هذا الحدث العجيب؟
الأرض مُدْحُوَّةٌ بإرادة السماء
ينقلنا القرآن إلى أسرار الخلق حين يقول: ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، والدحو كما بيّن العلّامة الطباطبائي في الميزان هو: “إعداد الأرض لتكون صالحة للسكنى”. الأرض لم تُخلق دفعةً واحدة، بل مرت بمراحل دقيقة، حتى اكتملت في مرحلة “الدحو” التي مهّدت لظهور الحياة. وفي سورة فصلت، نجد: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾، إشارةً إلى التدرج في الخلق والتهيئة.
وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام)، يحضر هذا اليوم كعلامة فارقة في التاريخ الكوني. روي عن الإمام الصادق (ع): «من صام يوم دحو الأرض كان كمن صام ستين شهرًا» (الكافي). كما ذكر المجلسي في بحار الأنوار أن يوم دحو الأرض شهد وضع الكعبة، مما يعمّق الصلة بين قداسة المكان وقداسة الزمان، بين الأرض كجسدٍ، والكعبة كقلبٍ نابض فيها.
لماذا نؤمن بأن الأرض مُدَحَّاة؟
الدليل العقلي: التنسيق المحكم لا يأتي صدفة إذا نظرنا إلى الأرض بعين العقل، لرأينا توازنًا عجيبًا بين عناصرها: الجاذبية المناسبة، الغلاف الجوي، دورة الماء، درجات الحرارة، المواقع الفلكية. هذا التنسيق البديع لا يمكن أن يكون عشوائيًا، بل يدلّ على عقلٍ مصمِّم، إرادةٍ حكيمة. كما قال الفيلسوف نصير الدين الطوسي: “التناسق في الطبيعة دليلٌ على الواحدية”.
الحكمة الوجودية: الأرض مسرح العبادة
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. لم تكن الأرض ملعبًا لهو البشر، بل ميدانًا للاختبار، وساحةً للعبادة. الدحو هو بداية هذا المسرح، حيث وُضعت الديكورات الكبرى للحياة، وبدأت الرحلة الأبدية للإنسان نحو معرفة ربه.
ذكرى الخلق: توحيدٌ يتجدد في الوعي
الاحتفال بيوم دحو الأرض ليس مجرد تذكّر لحدثٍ قديم، بل هو تجديد لعهد التوحيد، وتذكير بأن الله هو “بديع السماوات والأرض”، وأنه ما يزال يخلق، وما يزال يُجري الحكمة في الكون.
فرصة للعودة: نداء الأرض للمؤمنين
في الروايات، تُصوَّر الأرض على أنها شاهدةٌ على أعمال الإنسان، بل ومخاطِبة له. فكيف إذا كان هذا اليوم، يوم الدحو، هو اليوم الذي بدأت فيه تلك الشهادة؟ ألا ترى أن الأرض تناديك قائلة: “عبدي، أنا التي بُسطت لك، فماذا زرعتَ فيّ؟ خيرًا أم شرًّا؟”
أعمال تُقرّبك إلى الله في يوم الدحو
في هذا اليوم المبارك، تفتح السماء أبوابها للتائبين، وتبسط الأرض سجادتها للعابدين، فكل عمل يُقرّبك من الله يصبح أثمن وأطهر. من أعظم القربات في هذا اليوم صيامه، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أن من صامه كان كمن صام ستين شهرًا، وهو ما يعكس عظمة هذا اليوم في ميزان الطاعة. أما من اشتاقت روحه لزيارة الإمام الرضا (ع) ولم يستطع بلوغ مشهده الطاهر، فليزر بقلبه، وليرفع يديه خاشعًا مرددًا: “اللهم إني أزورُه بواصلِ مَن زاره”، فإن النية الصادقة عند الله لا تضيع. ومع إشراق الفجر، تُروى الأرواح بدعاء الندبة، ذاك الدعاء الذي يهتف فيه المؤمن: “أينَ مُعِزُّ الأَوْلِيَاءِ؟”، كأنها صرخة القلب الباحث عن عدالة السماء في ظلمات الأرض. إن هذه الأعمال، وإن بدت بسيطة، فإنها في جوهرها تجديد للعهد، وفتحٌ لباب العودة إلى الله، واستجابة لنداء الأرض التي ما زالت تنادي عباد الله: “ارجعوا إلى ربكم”.
الأرض تُناجيك!
تخيل أن حجراً صغيرًا من أرضك، يهمس لك في هذا اليوم: “أنت هنا لأن الله أرادك!” دحو الأرض هو يوم المصافحة بين الأرض والسماء، يوم العهد بين الخالق والمخلوق. فهل تسمع صوت الأرض؟ هل تلبي نداء الخالق؟ أم تمرّ مرور الغافلين؟
الخلاصة:
يوم دحو الأرض هو مناسبة كونية وروحية، تتجاوز معناها الظاهري إلى أبعاد أعمق من التأمل والفهم الإيماني. الكلمة في أصلها تحمل معنى البسط والتمهيد، وهي تمثل لحظة انفراج الوجود، حين بسط الله الأرض بعد أن كانت غير صالحة للحياة، فخرجت اليابسة من جوف الماء، وتجلت الإرادة الإلهية في تهيئة بيئة قابلة للمعيشة.
في النصوص القرآنية، نجد دقة في وصف هذا الحدث، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، التي فسّرها العلماء بأنها إشارة إلى التهيئة التدريجية للأرض. وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام)، يتجلّى يوم الدحو كمناسبة عظيمة تحمل في طياتها أسرار الخلق والعقيدة، منها أنه اليوم الذي وُضعت فيه الكعبة، وهو مرتبط بالعبادة والطاعة والاستجابة للنداء السماوي.
من زاوية عقلية، فإن دحو الأرض يعكس انسجامًا دقيقًا في التكوين، يثبت وجود مصمم حكيم جعل من الأرض كوكبًا صالحًا للحياة. ومن زاوية إيمانية، هو تأسيس لمسرح الوجود الذي خُلق الإنسان فيه لعبادة الله والسير نحوه. كما أن هذا اليوم يحمل بعدًا تربويًا يُلهم الإنسان للتأمل في موقعه في الكون، ويشجعه على العودة إلى خالقه بالتوبة والطاعة.
الأعمال المندوبة فيه ليست مجرد طقوس؛ بل هي مفاتيح تفتح بها أبواب القرب من الله، كالصيام الذي يُعادل صيام ستين شهرًا، وزيارة الإمام الرضا (ع) رمزًا للارتباط بأئمة الهدى، وقراءة دعاء النُدبة تذكيرًا بالانتظار الواعي والارتباط بالمشروع الإلهي.
يوم دحو الأرض، إذًا، هو تذكرةٌ بأننا نعيش على أرضٍ مقدّسة بُسطت لنا لنكون خلفاء الله فيها. هو يوم نُجدد فيه العهد، ونستعيد فيه وعينا بغاية الخلق، ونتأمل في النعمة التي نعيشها كل يوم دون أن نشعر بها: نعمة الأرض، ونعمة الحياة، ونعمة الهداية.
اللهم بحق يوم دحو الأرض، وبحق محمد وآله الأطهار، اجعلنا من العارفين بأسرار خلقك، المُسبّحين بحمدك، الواقفين عند حدودك. اللهم لا تجعلنا من الغافلين عن نداء الأرض، ولا من الظالمين لأنفسهم فيها. اجعل صومنا شكرًا، وصلاتنا طهرًا، وقولنا حقًا. اللهم يا مُدَحِّي الأرض، كما بسطت الأرض، ابسط لنا في رزقنا ونور قلوبنا، واغفر لنا ذنوبنا، واكتبنا في هذا اليوم من عبادك المقبولين.