النخلة والموروث الاجتماعي

علي الوباري
والدتي رحمها الله تورد قصة أن أحد الفلاحين يموت أطفاله بعد الإنجاب بفترة قصيرة من ولادتهم، واقترح عليه أحد كبار السن أن يعانق نخلة في مزرعته حين تحمل زوجته ويقول عبارة ” فيك فيك يا النخلة ولا في عيالي “، وبالفعل أنجبت زوجته له أبناء وبقوا على قيد الحياة بأعمارهم المقدرة لهم، سرد هذه الحكاية ليس للإثبات أو التفنيد، لكن أوردتها كشاهد على علاقة الإنسان مع النخلة حتى بالتضحية.
كما ينقل عن البابليين مثلهم “إذا زرع شخص نخلة في أرضه سوف تباركه الآلهة ويزداد خيرًا”، بعض المجتمعات حين يموت شخص تزرع قرب قبره فسيلة اعتقادًا منهم أت في ذلك إراحة الميت وإبعاد الشر عنه، ولكن الغريب في رواية (النخلة والجيران) للكاتب العراقي غائب فرمان طعمة أنه يصور النخلة عاقرًا في الرواية كأن لا فائدة منها، وربطها بحالة بؤس وفقر، حتى لو كان يصور الظروف الاقتصادية في فترة زمنية بائسة تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الحالة المالية سيئة، ولكن على مر العصور كانت وما تزال النخلة هي الملاذ الاقتصادي الآمن وإناء الطعام إذا أجدبت التربة وبقيت دون نبات، ومأوى الأكل والسكن إذا انتشر الحرمان، ورمز العطاء إذا قحطت الأرض وتوقفت السماء عن هطول الأمطار.
النخلة كانت تزرع في البيت ليس لرطبها وتمرها فقط، بل هي حارسة للبيت إذا غاب عائله، وصديقة للأم، ومسلية للأبناء إذا ذهب رب المنزل للعمل والكدح، ويقال في الأمثال “ازرع في كل مكان نخلة”.
في كل أركان البيت تجد ما يذكر بالنخلة من حصير وسفرة تزين الجمعة على الغداء، وتجذب الناظر وهي منشورة على الجدار، وخوصها أساس صناعة الزبيل والمرحلة، وأعوادها مكون قفص الرطب، والجذوع غطاء الغرفة والعريش، تمر النخيل لا يغيب عن المنزل فهي رمز الكرم وعلامته حين ينقل الشخص صحن التمر من يد إلى أخرى في المجالس مع قهوة تتناغم في لونها مع لون التمر.
النخلة في أية بقعة بالأرض زرعت بها كانت الأساس للاقتصاد العائلي، ونواة الأسرة المنتجة بدءًا بالتمر وانتهاء بسعفها وليفها وجريدها وجذعها، وما تزال خصوصًا لمن يحب التراث.
القرآن رسخ أهمية النخلة بذكرها في القرآن ٢٦ مرة، تمرها مفيد للمرأة الحامل وفي حالة المخاض قال الله تعالى (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ)، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، آية(٢٣-٢٥)س مريم.
أصبح التمر الغذاء الأكثر فائدة للحامل وظل لها إذا اشتدت حرارة الشمس، النخلة عنوان السكن والاستقرار والاطمئنان.
النخلة تاريخها طويل صديقة الإنسان أو كما ذكر في الأثر عمة الإنسان، فكل مكان في الأرض زرعت النخلة فيه كانت ملهمة في القصص والحكايات ونسجت حولها أساطير تدل على أهميتها وقوة تأثيرها الغذائي وفوائدها الاقتصادية.
يندر مجتمع استفاد من النخلة لا يروي قصصًا وروايات بطلتها النخلة في الغذاء والسكن والدواء.
كانت الذاكرة الاجتماعية الشعبية الأحسائية تذكر عند الأطفال حين يعلوا أصواتهم وتزيد حركتهم في البيت تقول الأم “اعقل وإلا بخلي أم الخضر والليف تجيك” عبارة للطفل ليس القصد التخويف بقدر ما هو ملاطفة ضمنية وصادقة من جهة الأم بأن ما تهدد أبناءها بها هي متواجدة بينهم تحرسهم، يتأملون في سعفاتها صباح مساء حين تتحرك إذا هبت نسمات الهواء.
النخلة رمز الطموح والصعود تدرب الفلاح ومحب السعي إلى الأعلى، والتسلق والصعود على جذعها ابتداء من نخلة المنزل، تدربه على الصبر في تحملها العطش والصمود أمام العواصف، النخلة ربما الشجرة الوحيدة التي يتحدث عنها المجتمع طوال السنة برطبها وتمرها، فلها موسمين للحصاد بالرطب والتمر.
النخلة لها أسماء متنوعة كالإنسان تعرف باسماء مختلفة بأكثر من ٥٠٠ اسم في الأحساء، وثمرتها بعدة ألوان تنتهي في موسم التمر بلون تقريبًا، لا غنى عنه على السفرة يوميًّا، وإحدى المكونات الرئيسة في صناعة الحلويات والأكلات الشعبية والحديثة.
الأحسائيون يستخدمون التمر لعلاج التورم والرضوض في اليدين والأقدام بعجن التمر (السحة) مع السمن وتسخينه ولفه بقماش ووضعه على الإصابة للشفاء، وأيضًا يستعمل التمر في علاج الشد والتشنج العضلي.
كما يعتبر نواة التمر بعد الطحن قهوة لذيذة ومفيدة لتخفيض السكر.
النخلة مفردة لا تخلو الكتابات التراثية والأحاديث الاجتماعية من ذكرها وضرب الأمثال عليها، وفي الشعر والأهازيج والأناشيد.
النخلة اسم له معنى واسع في الثقافة الاجتماعية الشعبية يضرب بها في الأمثال مثل ما يقال “النخلة أكرم من راعيها” ويقال “النخلة الطويلة ما أقدرها والصغيرة فيها (سلة)شوك” ويقصد بها عن الكسل والعجز، كما يعبر عن النخلة بخيرها وكرمها “إذا صار الصرام كل الناس كرام”، وقيل على مراقبة الناس للشخص ومحاسبته “إذا كنت تاكل التمر، غيرك يعد الطعام”، النخلة حاضرة في الذاكرة الشعبية أيضًا بالأفراح وحتى الأتراح يستعمل سعف النخيل في زفة العروس وهي علامة السعادة والسرور والنمو، كذلك يستخدم جذوع النخيل في تغطية اللحد بالقبر.
النخلة تجمع عدة اختصاصات في العناية بها في كل مجتمع يزرعها، فمثلًا بالأحساء، يعرف البط (تشذيب أو تقليم زوائد النخلة) والعامل يسمى البطاط، الشحاط وهو من يقطع السعف من النخلة، والتنبيت (التأبير) تلقيح النخلة في بداية حملها الثمر، والصرام من يصرم التمر في نهاية موسمه.
النخلة مصدر خير مستدام وشعار المنازل قديمًا وحديثًا والنخلة تحمل عدة أسماء لتميز ثمرتها رطبًا وتمرًا فهي عروس المنازل وزينة الشوارع وملجأ وغذاء لعابر السبيل وهي خير وبركة كما تذكر خليجيًا:
جت أمي جت أمي جابت عذوق السلمي تعني إذا أقبلت المرأة ودخلت المنزل أو أي شخص وفي يده الخير والرزق الوفير.