لعبة الفهد – الحلقة السابعة: من يعبث بإمبراطورية أبي مشاري؟

إبراهيم الرمضان
في القصر الفخم، اتجه الشيخ أبو مشاري إلى غرفة نومه باستخدام الكرسي المتحرك، يعاونه خادمه الصغير. وعند وصوله إلى باب الغرفة، نهض بكل غطرسة وجبروت، متكئًا على عصاه، ثم دخل الغرفة الفاخرة.
كانت الغرفة أشبه بجناح ملكي، تزينت جدرانها بورق مزخرف بألوان داكنة تتناغم مع الأثاث الفاخر. عند الزاوية، شمعدان ذهبي ينعكس ضوءه على الطاولة الرخامية، فيما تربع سرير ضخم بأعمدة مذهبة وستائر حريرية شفافة، يبعث أجواءً من الفخامة والهيبة.
خلع أبو مشاري بشته بحركة معتادة، فتلقفه الخادم سريعًا وعلّقه على الشمعدان الذهبي. ثم التفت إليه بصرامة، قائلاً:
– تعال غدًا في الموعد المحدد، ولا تتأخر!
أومأ الخادم برأسه، ثم انسحب بهدوء بعد أن أطفأ النور. لم تمضِ سوى دقائق، حتى غفت عينا أبي مشاري، واستسلم للنوم…
وفجأة!
دوى صوت قوي اخترق سكون الغرفة، تبعه ضحكات مرعبة، صاخبة، تردد صداها في الأرجاء. انتفض أبو مشاري جالسًا، قلبه يخفق بعنف. كان يعرف تلك الضحكات جيدًا… إنها نفسها التي سمعها في الفندق!
ولكن كيف؟ كيف وصلت إلى غرفته؟
صرخ بفزع، مناديًا خادمه، إلا أن القادم لم يكن الخادم، بل الحارس الشخصي الذي اندفع إلى الداخل وأشعل النور. وجد وجه أبي مشاري شاحبًا مرتجفًا، بينما الضحكات لا تزال تتردد. وعند الطاولة الجانبية، كان هناك جهاز تسجيل!
ولكن هذا الجهاز لم يكن هنا حين نام… إذن، هناك من تسلل إلى الغرفة وهو نائم!
صرخ أبو مشاري غاضبًا:
– أغلقوا جميع المداخل! أريد هذا المتسلل فورًا!
ولكن… أين الحراس؟ أين الأمن؟
هرع رجاله إلى غرفة التحكم الخاصة بالقصر، وعندما فتحوا الباب، تسمرت أنظارهم في ذهول… كل الحراس نائمون! وعلى الشاشات، التي كانت يجب أن تعرض أرجاء القصر، ظهرت عبارة واحدة تتكرر على جميعها: “X-Shadow”.
اغتاظ أبو مشاري بشدة من هذا المشهد المربك، أمسك بكتفي أحد الحراس الغارق في سباته محاولًا إيقاظه، ولكنه لم يتحرك. جميع الحراس كانوا في حالة غريبة من السبات العميق، وكأنهم تعرضوا للتخدير!
ولكن المفاجأة الكبرى لم تكن هنا!
في اللحظة التي كان فيها أبو مشاري يصيح بغضب، انفجرت أصوات من داخل القصر! أصوات انفجارات متتالية من الألعاب النارية، أيقظت سكان الحي بالكامل. بدأ الناس بالخروج من منازلهم، بعضهم مذهول، وآخرون ضاحكون، بينما صعد بعض الشبان إلى أسطح البيوت لتوثيق هذا الحدث النادر، مشاهد لم يكن أحد يتوقع أن يراها في أكثر أحياء المدينة هدوءًا!
ومع ذلك أصوات الضحكات لم تتوقف… هذه المرة لم تكن صادرة من جهاز تسجيل، بل من مكان قريب جدًا، فهد كان هنا!
وفجأة، قفز فهد أمامه باستفزاز، ثم اندفع نحو بوابة الخروج.
في تلك اللحظة، ظهر الخادم الصغير، فصرخ فيه أبو مشاري غاضبًا:
– أحضر الكرسي المتحرك حالًا!
بسرعة، دفع الخادم الكرسي إلى سيده، فجلس عليه أبو مشاري بعصبية، وهو يأمره:
– لاحقه فورًا! لا تدعه يهرب!
بدأ الخادم المسكين يدفع هذا الوزن الثقيل، يلهث مع كل خطوة، ولكن فهد كان أسرع، وعند وصولهم إلى البوابة، وجدوه قد استقل سيارة وانطلق بها مسرعًا. كانت بوابة القصر مفتوحة على مصراعيها، فيما الحراس لا يزالون غارقين في سباتهم العميق.
الحارس الشخصي، الذي لم يتردد لحظة، قفز إلى سيارة أبي مشاري الفاخرة محاولًا مطاردة فهد، بينما أبو مشاري كان يصرخ في الخادم:
– أسرع! خذني إلى السيارة!
عند اقترابهم من السيارة، حاول الخادم المسكين إيقاف الكرسي، ولكن الوزن الثقيل أفقده السيطرة… ليطير أبي مشاري في الهواء!
بمشهد كوميدي غير متوقع، اصطدم بالأرض، متألمًا وغاضبًا، بينما الخادم يهرع نحوه محاولًا مساعدته، يلهث معتذرًا. ولكن أبي مشاري، الذي كان الغضب قد بلغ به لحد النخاع، دفعه بعصاه بعصبية، ثم زحف نحو السيارة محاولًا الصعود بسرعة.
صرخ بغضب:
– شغل السيارة حالًا! لا وقت لنضيعه!
بمجرد أن أدار الحارس الشخصي مفتاح التشغيل… انبعث صوت غريب من المحرك، صوت لم يكن مألوفًا… ثم فجأة!! انفجر الغطاء الأمامي للمحرك (الكبوت)، واندفعت منه ألعاب نارية نحو السماء! الأصوات الصاخبة ملأت المكان، بينما أضواء الألعاب النارية زينت الليل وكأنها تحتفل بشيء ما، لتصل أصواتها إلى أنحاء القصر كلها!
تحولت ليلة القصر الهادئة إلى مهرجان فوضوي من الأضواء والصخب!
وسط هذه الفوضى، كان فهد لا يزال قريبًا من موقع الحدث، جالسًا في المقعد الأمامي لإحدى السيارات، ولكنه لم يكن هو السائق… بل كان عوض، الرجل ذو الماضي العاثر!
فهد، بابتسامة ساخرة وهو ينظر إلى وجه عوض المليء بالنشوة:
– ها؟ هل شفى غليلك يا عم عوض؟
عوض، ضاحكًا بصوت عالٍ وهو يراقب القصر الغارق في الألعاب النارية:
– ليس بعد!! ليس بعد!! أريده أن يتعذب أكثر!
فهد، بنظرات مليئة بالمكر، قرر أن يدفع الأمور إلى مستوى جديد:
– أتذكر أنك في شبابك كنت أسطورة في التفحيط، في طفولتي كنت أسميك (ملك الشوارع والطرقات) ولكن كنت أسمع أنهم كانوا يسمونك (الأسطورة عوض)! ولكن يبدو أن مهارتك قد اضمحلت الآن… ربما تحتاج إلى إعادة تدريب؟
عوض، وقد اشتعل التحدي في عينيه وبات يفرقع أصابعه:
– من يقول ذلك؟ سترى الآن من هو الأسطورة عوض على حقيقته!
عوض قلب قبعته ذات الرفرف إلى الخلف، ثم أمسك بالمقود بثقة، وانطلق نحو سيارة أبي مشاري بسرعة مجنونة!
بدأ بالتفحيط حول سيارة أبي مشاري، يرسم دوائر مثالية، خمسات وخمسات، تارة يقترب حد الخطر، وتارة يبتعد مستعرضًا مهاراته، في كل مرة، يتصاعد الغبار حول أبي مشاري وكأنه عالق وسط إعصار من الاستفزاز!
انطلقت موجة ثانية من الألعاب النارية، هذه المرة أكبر وأعنف، لتضيء السماء وكأن القصر قد تحول إلى مدينة ملاهي مشتعلة بالألوان والأصوات!
كل هذا يحدث بينما العشرات من الشبان المحيطين بالقصر يصرخون فرحًا، يلتقطون مقاطع الفيديو، ويبثون الحدث المباشر إلى وسائل التواصل الاجتماعي، العناوين تتوالى:
– ” #قصر_أبي_مشاري_ينفجر”
– ” #أبو_مشاري_يطير_من_الكرسي”
– ” #تفحيط_في_قصر_رجل_الأعمال”
وسط هذا الضجيج، توقف عوض للحظة. التفت إليه فهد مبتسمًا بسخرية:
– ألا تريد أن تردد الآن عبارتك الشهيرة؟
رفع عوض حاجبه، قبل أن يجيب بصوت متصنع وهو يغير ملامحه إلى هيئة بائسة:
– لقد عدّلتها… أصبحت هكذا: (يضع يده على صدره بتنهيدة عميقة) آاااه… بات المكان أكثر ضجيجًا، في عالم تضج بالهدوء.
انفجر كلاهما ضاحكين، ثم ضرب فهد كتف عوض، وكأنه يضع حدًا لهذه الفوضى:
– يكفي يا عوض، أعتقد أن أبو مشاري يجب أن ينام… ليستعد لجولة جديدة!
هرب الاثنان بالسيارة، وسط خيبةٍ كبيرةٍ واضحةٍ على وجه أبي مشاري. نزل الحارس الشخصي ببطء، أمر الخادم الصغير بأن يغلق البوابة فورًا، اتجه نحو أبي مشاري، وقد تجمدت نظراته وكأنه يحدق في الفراغ.
قال الحارس الشخصي بتردد:
– لا يهمك يا طويل العمر، سيتم معالجة وتصحيح كل شيء.
انقضَّ أبو مشاري غاضبًا على الحارس الشخصي، ممسكًا بملابسه وهزه بعنف.
– ماذا ستصحح؟! ذلك الحقير وصل إلى غرفة نومي! ماذا يمكن أن يكون أسوأ من ذلك؟!
لم يجد الحارس الشخصي إجابة مقنعة، ولم يكن أبو مشاري في مزاج يسمح له بالاستماع إلى أي أعذار فارغة. كان المشهد كارثيًا وفظيعًا إلى أقصى حد بالنسبة له، الأمور خرجت عن السيطرة تمامًا!
قبل أن يتمكن الحارس الشخصي من الرد، غطى صدى مكبرات الصوت المكان:
– افتحوا البوابة فورًا! هنا الشرطة!
اتسعت عينا أبي مشاري، محاولًا استيعاب الموقف. لم يكن ينقصه سوى تدخل الشرطة لتكتمل هذه الليلة الكارثية!
تحرك الحارس الشخصي مسرعًا نحو البوابة، بينما بقي أبو مشاري يراقب المشهد بأنفاس متقطعة. دقائق، وكانت السيارات السوداء متوقفة أمام القصر، خرج منها ضابط بملامح صارمة، اتجه مباشرة نحو أبي مشاري، أخذ نظرة سريعة على محيط القصر وآثار الفوضى العارمة قبل أن يسأله بنبرة رسمية:
– هل أنت الشيخ أبو مشاري؟
أجاب أبو مشاري بصوت لا يخلو من التوتر:
– نعم، ما الذي أتى بكم؟ لم أتقدم إليكم بأي بلاغ.
الضابط بجدية:
– لست أنت من أبلغ، لقد وردتنا شكاوى عديدة حول فوضى عارمة في محيط القصر، إطلاق ألعاب نارية غير مصرح بها، تفحيط وإزعاج للحي السكني، إضافة إلى تجاوزات أمنية خطيرة!
كاد أبو مشاري أن يفقد صوابه، لم يصدق ما يسمعه! رفع يده بانفعال وهو يردّ بصوت غاضب:
– أنا الضحية هنا! هناك مجرم اقتحم قصري، تسلل إلى غرفة نومي! وأنت تتحدث لي عن الألعاب النارية؟!
ولكن الضابط لم يبدُ متأثرًا بكلامه، بل تابع ببرود:
– حسنًا، أفهم أن لديك مشكلة أمنية، وسنقوم بالتحقيق في الأمر، ولكن هذا يتطلب إغلاق القصر مؤقتًا ريثما نتأكد من الوضع الأمني.
شهق أبو مشاري بغضب، وكاد أن يسقط مغشيًا عليه! إغلاق القصر؟! كيف وصلت الأمور إلى هذه الدرجة؟!
صرخ أبو مشاري:
– لن تقتربوا من قصري، ولم أطلب مساعدتكم أصلًا! لدي شركتي الأمنية الخاصة، وستتولى كل شيء دون الحاجة لتدخلكم.
الضابط، وهو ينظر حوله إلى آثار الفوضى العارمة:
– وأين شركتك الأمنية من كل هذا؟ الفوضى في كل مكان.
رد أبو مشاري بحدة:
– أيًّا يكن، لدي الحصانة الكافية لمنعكم من الاقتراب! لا تأتوا إلى هنا ولا تقوموا بأي إجراء دون إذني.
نظر الضابط إلى أبي مشاري للحظات، ثم قال ببرود:
– طالما الأمر كذلك، حاول إنهاء كل شيء سريعًا. ولكن، أخبرنا… هل لديك أية معلومات عن صاحب السيارة التي أثارت كل هذه الجلبة؟
قطب أبو مشاري حاجبيه، ورد باستهزاء:
– أظن أن هذا من اختصاصكم، وليس من اختصاصي! ابحثوا عن صاحب السيارة واقبضوا عليه، طالما أن أمره يهمكم.
أدرك الضابط أن الحديث مع أبي مشاري لن يجدي نفعًا، فالتفت إلى فريقه وأصدر أوامره بالانسحاب من ساحة القصر.
شيئًا فشيئًا، بدأ المكان يخلو، ولم يتبقَ سوى أبي مشاري وحارسه الشخصي. وقف للحظات، يراقب القصر الذي لم يعد كما كان قبل ساعات، يشعر أن كل شيء ينهار من حوله. لم يكن ما جرى مجرد ليلة سيئة… بل بداية كابوس حقيقي!!
في صباح اليوم التالي، وفي إدارة البحث الجنائي، كان النقيب مدرك قد وصلته أخبار الفوضى العارمة التي حدثت في قصر أبو مشاري، كان معروفًا بصرامته وجديته، رجل في الأربعينات، متوسط القامة، بملامح جادة ووجه طويل مع شارب كثيف، وذقن قصير أسفل فمه يرتبه بعناية، بينما يزيل باقي لحيته بالموس، وشعر أسود قصير بدأ الشيب يتسلل إليه عند الجانبين، ويوحي مظهره بشخصية لا تعرف التهاون، رجل لا تفوته شاردة ولا واردة.
جلس في مكتبه، مسندًا مرفقيه إلى الطاولة، ضامًّا يديه أسفل ذقنه، وعيناه تحملان تساؤلات كثيرة. التفت إلى فريقه قائلًا بلهجة حازمة:
النقيب مدرك:
– حسنًا، ماذا بشأن السيارة التي أثارت كل هذه الفوضى؟ هل تم التعرف على صاحبها؟
تبادل أعضاء الفريق النظرات للحظات، قبل أن يجيب أحدهم بتردد:
– نعم، تم العثور على السيارة متوقفة على مسافة غير بعيدة عن القصر.
رفع النقيب حاجبه بترقب، ثم تابع بسؤال أكثر جدية:
– وماذا بعد؟ هل تم القبض على صاحبها؟
تردد أحد المحققين قبل أن يجيب، وكأنه متخوف من ردة فعل النقيب:
– تبين أن السيارة مسجلة باسم… أبي مشاري نفسه!
قطب النقيب مدرك حاجبيه في دهشة، قبل أن يسأل مستنكرًا:
– كيف لمثل هذه السيارة الصغيرة والبسيطة أن تكون ضمن ممتلكات رجل مثله؟!
تدخل محقق آخر ليجيب:
– يبدو أنها إحدى السيارات التي صادرها أبو مشاري من الذين تعثروا في سداد الأقساط المستحقة عليهم… وعلى ما يبدو، فإن الشخص الذي سرق السيارة كان على دراية بذلك، واستغلها لصالحه!
ساد الصمت للحظة في الغرفة، قبل أن يغمغم النقيب مدرك وهو يفكر بعمق:
– بعيدًا عن هذه الحادثة، هذا الرجل كان مثيرًا للريبة منذ فترة. تصرفاته وتعاملاته تثير الشكوك، علاوة على إجراءاته الأمنية المشددة ورفضه لأي تعاون مع الأمن العام، وكأن منظومته أشبه بدولة داخل دولة… أصبح أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ(الدولة العميقة).
ثم أردف قائلًا، ونبرته تعكس قلقًا متزايدًا:
– مع أن لديه نشاطات كثيرة تبدو مشبوهة، إلا أنه يبقى بعيدًا عن المحاسبة، وكأن هناك من يحميه. فاسدون مثله يشكلون خطرًا على الأمن الوطني والاقتصادي، ولا يمكن ترك الأمر على هذا النحو.
توقف لحظة، ثم واصل بحزم:
– ينبغي أن يكون هذا الرجل تحت المراقبة الدقيقة يا رفاق، ستكون هذه مهمتنا من الآن فصاعدًا.
تبادل الفريق النظرات بجدية، قبل أن يرفع أحد المحققين صوته متسائلًا:
– ولكن كيف؟ مع هذه التحصينات والتدابير الأمنية التي يعتمدها، يبدو أن اختراقه صعب جدًا.
ابتسم النقيب مدرك ابتسامة خفيفة، ثم قال بثقة:
– ليس بالصعوبة التي تتخيلها… شخصٌ ما تمكن بالفعل من اختراق تحصيناته وتركه في فوضى غير مسبوقة، وهذا يعني شيئًا واحدًا: لديه أعداء، وأولئك الأعداء يعرفون ثغراته جيدًا!
ثم نظر إلى فريقه نظرة صارمة قبل أن يأمرهم:
– ابدؤوا بجمع كل ما يمكنكم رصده من معلومات… من يمكن أن يكون وراء كل هذا؟ وما الذي يخططون له لاحقًا؟ لا أريد ترك أي شيء للصدفة!
من ناحية أخرى، كان أبو مشاري ينتظر شخصًا تم استدعاؤه بعد أن قيل له إنه خبير في الجرائم المعلوماتية، وذلك لوضع حدٍ نهائي للاختراقات المتكررة التي تعرض لها مؤخرًا.
بعد لحظات، فُتح الباب ودخل الرجل المنتظر. كان متوسط القامة، نحيل الجسد، بشرته الشاحبة وطريقة مشيته المرهقة توحي بنقص حاد في فيتامين (د) وكأن الشمس لم تلامسه منذ زمن، أما الترهل البادي على جسده، فكان يشير إلى حمية غذائية غير صحية. كان مرتديًا ملابس تحمل شعارات ماركات عالمية، ولكن من الواضح أنها من البضائع المقلدة. زادت نظارته ذات الإطار العريض والعدسات الكبيرة غير المتناسقة مع وجهه من غرابة مظهره. رغم محاولته التظاهر بالثقة، إلا أن أصابعه التي لا تكف عن تعديل أكمامه فضحت ارتباكه.
بدأ الحارس الشخصي بالتحاور مع الخبير الإلكتروني، وعندما سمع الأخير باسم (X-Shadow)، تغيرت ملامحه قليلًا قبل أن يجيب بصوت هادئ:
– إمكانات هذا الشخص الغامض تفوق قدراتي.
كانت تلك الكلمات كفيلة بإشعال غضب أبي مشاري، فالتفت إلى حارسه الشخصي بنظرة حادة، مليئة بالشك، وكأن عينيه تقولان: “هل هذا هو الخبير الذي أحضرته؟!”
شعر الخبير بالتوتر للحظة، ولكنه سارع بالحديث ليبرر موقفه:
– ما يمكنني فعله هو تقديم حلول تمنع حدوث أي اختراق جديد مستقبلًا، أما تعقب هذا الـ(X-Shadow)، فهو أمر معقد جدًا ويحتاج إلى إمكانات تفوق ما أملك.
ثم تابع موضحًا:
– أول وأهم خطوة يجب اتخاذها الآن، هي إيقاف شبكة الاتصالات تمامًا عن الفندق والقصر، إلى أن يتم تأسيس شبكة اتصالات بديلة، تكون أكثر أمانًا وقوة من سابقتها.
ولكن أبا مشاري لم يبدُ مقتنعًا بهذا الحل، إذ لم يكن مستعدًا للتعامل مع المشاكل التي ستنتج عن تعطيل الاتصالات، خصوصًا مع حجم أعماله وارتباطاته الواسعة… لم يكن هذا هو الحل الذي يريده!
تنهد الحارس الشخصي قائلًا:
– حسنًا، وماذا عن سمعة طويل العمر التي تلطخت بسبب ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي؟ الهاشتاقات المتعلقة بالحادثة لا تزال متصدرة ومتداولة بشكل واسع.
قال الخبير بلهجة واثقة وهو يشبك أصابعه ببعضها:
– هذه لعبتي، لدي مجموعات متعددة تعمل لصالحي بمقابل مادي، يكتبون وينشرون ما نريده لرفع صورة الشخصيات التي ندعمها وتشويه سمعة من نستهدفهم، الذباب الإلكتروني له تأثير قوي جدًا، ويمكننا استخدامه لقلب الأمور لصالحك.
ولكن أبا مشاري لم يكن مقتنعًا بهذا الطرح، فالتفت إلى حارسه الشخصي وقال بسخرية واضحة:
– الحمقى الذين أخبروك أن هذا (خبير)، ربما كانوا يقصدون أنه خبير في الذباب الإلكتروني، وليس في التصدي للمخترقين الإلكترونيين!!
شعر الحارس الشخصي بالإحراج للحظة، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه وقال باقتناع:
– ولكن الفكرة تبدو مفيدة يا طويل العمر، لماذا لا نجرب ذلك؟ قد يساعدنا في الحد من انتشار الفضائح وتحسين صورتك أمام العامة.
ظل أبو مشاري صامتًا للحظة، بدا وكأنه يزن الأمور بعناية، يدرك أن سمعته في السوق أهم بكثير من أي اعتبارات أخرى…
في عصر اليوم نفسه، كان فهد مستلقيًا على سريره في منزل والده، حين تلقى رسالة من ناهد، لقد أرسل لها في وقت سابق ليبلغها بأنهم قد استفادوا من المعلومات التي زودتهم بها بشأن تحركات أبي مشاري، إضافة إلى بعض الأسرار والثغرات المتاحة، مما أسفر عن فضيحة مدوية جعلت منه أضحوكة للجميع.
جاء رد ناهد واضحًا وحادًا:
– غليلي لم يشفَ بعد، خصوصًا بعد أن اكتشفت أن أبا مشاري هو من يقف وراء حادثة جامع القرية، والتي راحت ضحيتها والدتي. دمي يغلي كلما رأيت وجهه وهو لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة.
كتبت بحقد:
– غليلي لن يهدأ حتى أدوس على أصابعه النتنة بقدمي!
ابتسم فهد وهو يرد عليها:
– ستدوسينها يومًا… وستدوسين أضلاعه أيضًا، ولكن عليكِ بالصبر، الوضع يتطلب صبرًا إستراتيجيًا طويلًا. المطلوب ليس مجرد إذلاله، بل القضاء على منظومته بالكامل، وإسقاط إمبراطوريته، وهذا يتطلب جهدًا ووقتًا.
حينها سمع صوت طرق قوي على الباب، فنهض بتثاقل ليفتحه، ليجد والده واقفًا أمامه، وجهه محمر من الغضب.
أبو فهد، بصوت يحمل نفاذ الصبر:
– هلا أخبرتني ماذا عبثت مع الشيخ أبي مشاري بالأمس؟ أهالي الحارة تجمعوا حول المنزل، يطالبون بطردك من الحي كله! ما المصيبة التي ارتكبتها هذه المرة؟ لماذا لا تتركنا نعيش في حالنا؟
فهد، بابتسامة ساخرة وهو يميل على الباب بتكاسل:
– ما شاء الله، أخباري باتت تتصدر العناوين حتى وصلت إلى أبوابنا! هل أصبحت حديث المجالس مجددًا؟
في تلك اللحظة، جاء علي بجانب أبيه، ممسكًا بهاتفه، وعرض على والده شيئًا يتعلق بفهد. حدّق أبو فهد في الشاشة بذهول، عينيه تتنقلان بين العبارات التي تتوالى على وسائل التواصل الاجتماعي، كلها منشورات تشنّع بفهد، بينما تصوّر أبا مشاري كضحية بريئة!!
ضحك فهد باستخفاف، وهو يهز رأسه بسخرية:
– يا لها من مهزلة! يبدو أن أبا مشاري صار أكثر ضعفًا مما توقعت… أن يصل به الحال إلى الاستعانة بحثالة إلكترونية ليحاربني؟!
أبو فهد، بنبرة متعبة وهو يحدّق في فهد بقلق:
– يبدو أنك لن تستوعب الأمر، فهد أرجوك، لا تلعب بالنار، نحن لسنا ندًا لهؤلاء، دعنا نعيش ما تبقى من حياتنا بسلام.
فهد، مبتسمًا بثقة، وهو يضع يديه في جيوبه:
– وهل تعتقد أنني ألعب بالنار؟ أم أنني استخدمه لإضاءة ظلامه الفاسد؟ صدقني، يا أبي، الصمت أمام أمثاله هو الذي يجعلهم يزدادون قوة.
سمع أبو فهد جرس الباب يرن مجددًا، فتنهد متأففًا، مطلقًا زفرة طويلة:
– غاضب جديد بلا شك، الله المستعان.
اتجه نحو الباب ليرى من الطارق، بينما علي دخل الغرفة وجلس على سرير فهد، يحدّق فيه بصمت.
فهد، رافعًا حاجبه بتعجب:
– ما بالك تحدق فيّ هكذا؟ أتراك غاضبًا مني مثل أبيك؟
علي، متنهّدًا وهو يشير إلى هاتفه:
– ليس منك… بل من المكتوب هنا. ربما سألاقي الأمرّين غدًا في المدرسة بعد الذي انتشر، ولكني لن أغضب منك طالما الأمر يتعلق بأبي مشاري.
ثم ابتسم بسخرية خفيفة وهو يضيف:
– أتذكر؟ أمّي كانت تمقته كثيرًا.
في هذه اللحظة، عاد أبو فهد إلى ابنيه.
فهد، بابتسامة ساخرة وهو يضع يديه خلف رأسه:
– ها… هل تمكنت من امتصاص غضب الزائر هذه المرة؟ من أي فئة من الغاضبين كان؟
أبو فهد، متنهّدًا وهو يشير خلفه:
– هذه المرة، لم يكن شخصًا غاضبًا… لديك زائر.
التفت فهد ليرى القادم… كان أبو موسى.
أبو موسى، وهو يدخل بخطوات هادئة، ناظرًا إلى فهد بجدية:
– أهلًا يا فهد، أظنك مطّلع على ما يُكتب عنك في وسائل التواصل الاجتماعي. يجب ألا تبقى هنا، الخطر بات محدقًا بك، من الأفضل أن تتوارى عن الأنظار لبعض الوقت.
فهد، بابتسامة واثقة:
– أتظن أن أبا مشاري يستطيع أن يمس مني شعرة؟ إنه أعجز من ذلك!
أبو موسى وهو يهز رأسه:
– ليس الأمر متعلقًا بأبي مشاري وحده… أنت تتذكر النقيب مدرك جيدًا، أليس كذلك؟ كن على يقين أنه سيتعقبك، وهو ليس من النوع الذي يترك الأمور تمر مرور الكرام. هنا، ستكون بين نارين… لا تخف، نحن معك حتى النهاية، ولكن يجب أن نأخذ بالأسباب، ونتصرف بحذر للخروج بأقل أضرار ممكنة.
وأردف:
– خذ كل ما يخصك وأسرع بالخروج، فإن عوض بانتظارنا في الخارج.
لم يعارض فهد نصيحة أبي موسى، بل امتثل بصمت، جمع ما يلزمه على عجالة، ثم غادر معه دون تردد.
قبل أن يرحلا تمامًا، اقترب أبو موسى من أبي فهد وهمس له:
– فهد كان محقًا فيما قاله، الناس هنا ليسوا كأهل قريتنا. لا ألومك على ما تواجهه حيالهم، ولكن… ألا يجب أن يكون لعائلته دورٌ أكثر إيجابية تجاهه؟ حتى وإن أخطأ كثيرًا في ماضيه، فهذا لا يعفيكم من مسؤوليتكم نحوه.
أبو فهد لم يرد، ولكنه تنهد بعمق، وعيناه تراقبان ابنه وهو يبتعد مع أبي موسى بمشاعر متضاربة. كان يدرك أن فهد قد اختار طريقه، ولكن هل هناك مجال متسعٌ للعودة؟ زفر بعمق، ثم أغلق الباب ببطء.