أقلام

المعاد: الخاتمة التي تَحكم المصير بين عدل الله ورحمته

أحمد الطويل

مقدمة:

من يملك آخر اللحظات، يملك كل شيء.

في لحظةٍ خاطفة، بين شهيقٍ وزفيرٍ أخير، يُطوى كتابُ الحياة. في تلك اللحظة، يُحسَمُ كلُّ شيء: الجنة أو النار، المغفرة أو الخسران. ولكن كيف؟! أليس من عاش عمره في الطاعة أحق بالنجاة؟ وهل من تاب في آخر لحظة يُدرك الرحمة؟!

هذه الأسئلة ليست رفاهية فكر، بل صرخةُ الروح الباحثة عن المعنى في هذه الرحلة العظمى، المعاد.

بين طيات الفكر العميق، في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، يفتح لنا العلامة الحلي نافذةً كبرى على هذا المصير، ويقودنا في دربٍ يجمع الوعد والوعيد، الإحباط والتكفير، تحت سلطة مفهومٍ مفصليّ: الموافاة.

هنا نبدأ رحلتنا: حيث يكون الإيمان هو التذكرة، والنية هي الوقود، والخاتمة هي البوصلة.

الموافاة: حين تُختَصر الحياة في لحظة

يرى العلامة الحلي أن العبرة ليست بما يبدو من سيرة الإنسان طوال حياته، بل بالحال الذي يختم به هذه الحياة. الموافاة تعني أن يكون الإنسان مؤمنًا أو كافرًا ساعة موته، وهي اللحظة التي تُحدِّد مصيره الأبدي. فإن مات على الإيمان، نجا، وإن مات على الكفر، هلك، حتى وإن كانت حياته مليئةً بالطاعات. وفي هذا المعنى يقول تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، وقوله أيضاً: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾.

ويؤكّد الإمام الصادق عليه السلام هذه الحقيقة بكلمة جامعة: “إنما الأعمال بالخواتيم”، دافعًا بنا نحو وعيٍ دائم أن المعيار الحقيقي هو موقف القلب عند الموت لا مجموع ما كان عليه الظاهر سابقًا.

عقليًا، لو قيل إن الأعمال تُحتسب وحدها دون اعتبار للخاتمة، لكان في ذلك ظلمٌ لمن تاب بصدق في اللحظات الأخيرة، ونجاةٌ لمن نافق طيلة عمره، ومات على النفاق. ولهذا، كانت الحكمة الإلهية تقتضي أن تكون الخاتمة هي مرآة الاختيار النهائي الذي يُحاكَم عليه الإنسان.

الإحباط: سقوط القشرة وكشف الجوهر

عند الخوض في مسألة إحباط الأعمال، يتبيّن أن الإشكال الحقيقي ليس في “إلغاء” الثواب، بل في فهم شروط تحقّقه. فالعلامة الحلي يميّز بين الإحباط الظاهري الذي هو في حقيقته كشفٌ عن عدم الاستحقاق، وبين التصور الباطل الذي يتوهّم أن العمل كان مثمرًا ثم ضاع. بحسب الحلي، العمل لا يُثاب عليه أصلًا ما لم يُقرن بالإيمان وصدق النية. وبالتالي، فموت الإنسان على الكفر يُظهر أن أعماله لم تكن مستحقة للأجر، لأنها افتقرت للنية الصالحة أو الإيمان الحقيقي.

وقد صوّر القرآن هذه الحقيقة بقوله: ﴿وقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾. فليست المسألة أن الله ألغى الأجر، بل أن العمل كان خاليًا من مقوّمات القبول منذ البداية. تمامًا كما تبدو القشرة لامعة، ولكنها تخفي ثمرة فاسدة.

التكفير: رحمةٌ على ضفاف العدل

لكن مع هذا، لا تُغلَق أبواب الأمل. فالتكفير، في مقابل الإحباط، هو بابُ الرحمة الذي جعله الله مفتوحًا لمن عاد إليه تائبًا. الحسنات تُذهِب السيئات، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. بل إن عدل الله لا يكتفي بردّ السيئة، بل يضاعف الحسنة: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾.

ورغم أن بعض العلماء مثل الشيخ المفيد والسيد المرتضى تبنّوا رأيًا قريبًا من المعتزلة في مسألة الإحباط، إلا أنهم لم يُطلقوه، بل قيدوه بقيود دقيقة. فالذنب الكبير، في رأيهم، قد يُذهب ثواب الحسنات، لكن بشرط عدم التوبة، وغياب الإخلاص، وعدم شمول الشفاعة. أما إن تاب العبد، فإن رحمة الله أولى أن تُقبِله.

من جهة فلسفية، لولا هذا الباب المفتوح من التكفير، لعمّ اليأس قلوب الناس، وفقدت الرحمة معناها. ولكن الله الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يغلق بابه ما دام القلب ينبض بندمٍ صادق.

الميزان العادل: حكمة تُوازن الرهبة بالرجاء

إن دقّة الموقف الكلامي، كما شرحه العلامة الحلي، تقوم على ميزانٍ ذهبيّ يجمع بين العدل والرحمة، وبين الوعيد والوعد. فالمعاد ليس حكمًا آليًا على سجلّ الأعمال، بل هو كشفٌ للجوهر الحقيقي للإنسان. فليس كل من عمل خيرًا نجا، ولا كل من زلّ هلك، بل الحكم لله، بحسب نية العبد وخاتمته وموقفه من الحق حين تجلّى له.

فالله لا يُضيّع أجر المحسنين، ولا يُبقي الكافرين دون حساب، ولا يُساوي بين مَن تاب ومَن أصرّ. وهو القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.

من عَرف خاتمته، أحسن بدايته

في النهاية، هذه العقيدة لا تُدرَس لتُحفَظ، بل لتُعاش. المعاد ليس سردًا مستقبليًا فقط، بل هو مرآة للحاضر. إن معرفتك أن مصيرك يُختم في لحظة، تدفعك لتجعل كل لحظة صالحة لتكون الأخيرة.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “اعملوا وجدّوا، فإنما هي الأنفاس معدودة، والآجال محدودة، والمواسم منصرفة، والسير إلى الله سريع.”

الخلاصة:

يُبرز مفهوم المعاد في الفكر الإسلامي، كما شرحه العلامة الحلي، حقيقةً محورية: أن مصير الإنسان لا يُحدَّد فقط بطول العبادة أو كثرة العمل، بل بخاتمة الحياة التي تُسمى الموافاة. فالموت على الإيمان أو الكفر هو الفيصل الذي تُوزَن به الأعمال، لأنّه يكشف عن القرار الأخير الذي يعبّر عن جوهر الإنسان واختياره الحر.

في هذا السياق، يتّضح أن الإحباط ليس ظلمًا، بل هو تجلٍّ للعدل؛ إذ إنّ العمل إن خلا من الإيمان أو انتهى بصاحبه إلى الكفر، فهو لم يكن مستحقًا للثواب أصلًا. وعلى النقيض، فإن التكفير يُظهر جانب الرحمة الإلهية، حيث تمحو الحسناتُ السيئات، وتُغفر الذنوب بالتوبة الصادقة، ما دام القلب نابضًا بالإخلاص.

تجمع العقيدة الشيعية الإمامية، في هذا الباب، بين عمق الحكمة وعدالة المحاسبة، رافضةً كل تسطيح مفرط إما بالغفران المطلق أو بالعقاب القاسي غير المنضبط. فالله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، بل يحاسبهم بما ماتوا عليه من إيمان أو ضلال.

وهكذا، فإن الإيمان بالخاتمة يُحفّز الإنسان على مراقبة النية، والمداومة على التوبة، والحرص على أن تكون آخرته أفضل من دنياه، لأن من يملك لحظة الختام، يملك الأبدية.

اللهم يا مَن لا تضيعُ ودائعه، اجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وخيرَ أيامنا يوم نلقاك، وثبّت قلوبنا على دينك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وإن زلّت أقدامُنا، فاغفر، وإن ضاعت نيتُنا، فاهدِ، واختم لنا بخير، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى