حط رأسك بين رجليك

ياسر بوصالح
في التراث الخليجي، يتداول الناس مثلين شائعين “آكله وأزوعه ولا تأكله خالتي، مرت أبوي” و”اللي يتزوج أمي، أقوله عمي.”
المثل الأول يعبر عن موقف شخصي تجاه زواج الأب بزوجة أخرى، سواء كان ذلك في إطار التعدد، أو بزواج جديد بعد الطلاق، أو بالارتباط عقب وفاة الأم. في هذا السياق، يعلن المرء استعداده لأكل ما يفوق قدرته أو ربما طعامًا لا يطيقه، بل حتى وإن اضطر إلى التقيؤ – أعتذر على التعبير – فإنه يفضل ذلك على أن يهب تلك اللقمة البائسة لزوجة أبيه المسكينة اليائسة، تعبيرًا عن امتعاضه ورفضه لها أو عدم تقبله لهذا الوضع الجديد.
أما المثل الثاني، فهو على النقيض تمامًا، إذ يعبر عن القبول الكامل للواقع الجديد بعد زواج الأم، سواء بعد الطلاق أو الترمل. فالشخص في هذه الحالة لا يكتفي بتقبل الزوج الجديد، بل يمنحه مكانة اجتماعية خاصة، مخاطبًا إياه بـ”يا عمي”، تكريمًا وإجلالًا له، في إشارة إلى تقبله له كجزء من العائلة الجديدة.
أقول: رغم مسحة الابتسامة التي ترسمها هذه الأمثال الدارجة وغيرها، والتي تعكس واقع البيوت الخليجية اليومية، فإنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة براغماتية – إن صحّ القول – تتجلى فيها حالة الكيل بمكيالين في أبهى صورها: فتارة يُعلن فيها التمرد على الواقع، وتارة أخرى يُعلن الإذعان والاستكانة له.
وهنا، لعمري، بيت القصيد ومسكب العبرات؛ فحالة الكيل بمكيالين في تقييم الأمور ومعالجتها، تجعلنا – من حيث نشعر أو لا نشعر – نقع في الظلم وعدم الإنصاف للآخر. كما قال المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
لذلك نجد أن أهل البيت (عليهم السلام) لديهم حساسية كبرى تجاه الظلم، سواء في أبسط الأمور أو أعظمها. فمثلًا، يقول الإمام علي (عليه السلام):
)والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت)
الأقاليم السبعة في المفهوم القديم تشير إلى الأرض برمتها، حيث كانت تُقسم إلى سبعة أقاليم، وهي إشارة إلى السيطرة المطلقة على العالم. الإمام هنا يستخدم هذا التعبير ليبين أنه حتى لو مُنح ملك الدنيا كلها، فإنه لن يقبل بارتكاب معصية مهما كانت صغيرة.
ليت شعري، أي وزنٍ لهذه النملة حتى يخصها أمير المؤمنين بخطبته؟ (بعض الدراسات التي تحاول حساب الكتلة الحيوية للنمل تقدر أن الكيلوغرام الواحد يحتوي على ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين نملة)، فكم يبلغ وزن هذا الجلب من الشعير الذي تحمله على ظهرها؟
لذلك نجد في تراث أهل البيت (عليهم السلام) تركيزًا كبيرًا على مفهوم الإنصاف، كما في قول الإمام علي (عليه السلام): (الإنصاف شيمة الأشراف)
اختار الإمام الإنصاف بدلًا من العدل، رغم تقاربهما اللغوي، لأن الإنصاف يتجاوز العدل إلى مراعاة الجانب الإنساني للطرف الآخر.
ومن هنا، يمكننا أن ننظر إلى الموروث الشعبي لا بوصفه مجرد انعكاس لحالات اجتماعية متباينة، بل كمادة قابلة للتأصيل ضمن إطار الحكمة والفكر الإسلامي.
وهذا ما دفعني في محاولة سابقة إلى تأليف كتاب – لم يرَ النور – بعنوان “تأصيل الأمثال من تُراث الآل”، حيث سعيتُ إلى ربط الأمثال ذات البُعد الإيجابي بروايات أهل البيت (عليهم السلام)، ليس فقط تعزيزًا لارتباط الناس بتراثهم، بل أيضًا كتجربة لإحياء قيم العدل والإنصاف في الموروث الثقافي.
وقد جاءت هذه الفكرة امتثالًا لما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام)( رَحِمَ اللهُ عبدًا أَحيا أمرَنا.
فقلتُ له: وكيف يُحيي أمركم؟ فقال: “يتعلّم علومنا ويُعلّمها الناس، فإنّ الناس لو عَلِموا محاسنَ كلامنا لَاتّبعونا.)
بهذه الرؤية، سعيتُ إلى إحياء معارفهم ونشرها بأسلوبٍ يجمع بين عمق التراث وقوة التعبير الشعبي، ليكون ذلك سبيلًا جديدًا لتأصيل الحكمة وإثراء الوعي الثقافي. كما سعيتُ إلى استثمار هذه الأمثال في تقديم فهم أعمق لمعاني الإنصاف والعدل، لا بوصفهما مفهومين نظريين، بل كممارسات عملية تُجسد في الحياة اليومية.
وفي نهاية المطاف، أستدل بمثل شعبي خليجي يفيض إنصافًا وتجردًا، وينسجم مع ما تقدمنا به:
“حط رأسك بين رجليك وأشهد على والديك.”
هذا المثل يحمل بين طياته إيقاعًا مؤثرًا يحمل عمقًا دراميًا، فكأنّه يصور حالة تزاحم وتنازع بين واقع بر الوالدين، الذي هو من أعظم الفرائض، وبين واقع شهادة العدل، الذي هو أسمى القيم الإنسانية. كأنّ المثل يدعو إلى تجاوز النظرة إلى كليهما، كي لا يحدث تجاسر – ولو للحظة – ولتكن في موقف انحناءٍ وإذعان، كدلالةٍ على أن الأمر خارج عن إرادتك، فهي إرادة السماء، ثم لينطق لسانك بالحق المبين.