أقلام

فيض العطاء وشمس الإمامة في سماء الشباب

أحمد الطويل

مقدمة:

حين يتكلم الطفل باسم الله.

أن يُولد النور، فذاك أمرٌ مألوف في أعراف السماء، ولكن أن يولد في جسدٍ صغير ويُعلن الإمامة في التاسعة من عمره، فتلك ثورة على مقاييس الأرض. أن تكون إمامًا قبل أن يكتمل عودك في نظر الناس، فأنت إمامٌ بالجوهر لا بالمظهر. ذلك هو الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، الطفل الذي أدهش العقول ليس بذكائه الفطري فحسب، بل بمخزونٍ غيبي تفجّر منه العلم كما تتفجر الينابيع من قلب الصخور.

ونحن ننهل من مقامه ما يوقظ فينا الوعي. لم تكن حياته القصيرة إلا مرآة عاكسة لحقيقة جوهرية: أن السن ليس هو العطاء، بل هو العقل المتصل بالمطلق، وهو الإدراك الذي يسمع نداء الله دون أن تعلو لحيته أو تشيب مفارقه.

أسرار الاسم: “الجواد” لا لكرمه فحسب، بل لفيضه المعرفي

عندما لُقِّب الإمام بـ”الجواد”، لم يكن المقصود الكرم المادي وحده، رغم أنه أعطى عطاء من لا يخشى الفقر، كما ورد عن أصحابه. بل كان “جوادًا” لأن معينه من العلم لا ينضب، يُفيض من لبِّ الإمامة ما يُذهل الحكماء ويكسر قيد التقليد، ويبني فكرًا يثور على القوالب.

إنه الجواد لأن كل لحظة من حياته كانت فيضًا: عطاءً في المناظرة، كرمًا في الأخلاق، عمقًا في العقيدة. فصار اسمه في وجدان العارفين مرادفًا للكرم الإلهي الممزوج بالحكمة.

طفولة النبوة، إمامة المعرفة، ورسالة الإدراك

حين ارتحل الإمام الرضا (عليه السلام) وترك ابنه إمامًا، هاجت الأصوات المشككة: أطفلٌ يُنصب إمامًا؟! أليس السن شرطًا للفهم؟! لكن من يقرأ القرآن لا يقع في هذا الفخ؛ فالله سبحانه يقول: ﴿وآتَيْنَاهُ الحُكمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12).

والإمام الصادق (ع) عبّر عن هذا المنهج بوضوح حين قال: “إن الله لا يُنزل الإمامة إلا إلى من يعرف” (بحار الأنوار، ج50، ص98). فليس الزمن من يصنع الإمام، بل القابلية للفيوضات الإلهية. السن يُراكم التجربة، ولكن الإمامة مقامٌ لا يُنال بالسعي، بل بالاصطفاء. تمامًا كما لا يمكن للتراب أن يُنبت ذهبًا ما لم يُقدّره الله بذلك.

المناظرة لا تحتاج لعمر، بل إلى نور

من أشهر مشاهد هذه الإمامة الربانية ما وقع في بلاط المأمون، حيث واجه الإمامُ القاضيَ يحيى بن أكثم، الذي أراد أن يُحرجه بسؤالٍ شرعي. لكن الجواد (عليه السلام) لم يجب، بل فتح نافذة على بحرٍ من الأسئلة المضادة: هل كان الصيد في الحرم أم في الحل؟ هل كان الصائد عالمًا بالحكم أم جاهلًا؟ أكان الصيد طائرًا أم غيره؟…

كان ردّ الإمام كمن يرسم دائرة من فكر، ليحبس فيها خصمه ويُطلق نور التأمل في عقول السامعين. ولم تكن مناظراته مناكفة، بل تجليات علمية تمتح من قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76).

ولم يكتفِ الإمام بإفحام الخصوم فقهًا، بل دخل في أعمق العقائد، كقضية الجبر والتفويض، وبيّن بحكمة: “الله أكرم من أن يجبر عبده ثم يعذّبه” (تحف العقول، ص456)، مستندًا إلى ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286). هنا تبرز مدرسة أهل البيت، حيث لا انفصال بين العقل والنقل، ولا تعارض بين النص والضمير.

الرحيل لا يطفئ النور، بل ينشره

استُشهد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) مسمومًا في ريعان شبابه، فلم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين. لكن هل انتهى؟ كلا، فقد بدأ فعليًا بعد استشهاده. كل كلمة قالها تحولت إلى شعلة، وكل موقف اتخذه أصبح نبراسًا. هو واحدٌ من أولئك الذين يوسّعون حدود الزمن، فيجعلون من حياتهم القصيرة أعمارًا ممتدة في وعي الأمة.

المأمون وأتباعه حاولوا أن يُسكتوا هذا الصوت، ولكنهم لم يعلموا أن الكلمة حين تخرج من قلبٍ معصوم، فإنها لا تموت بل تُخزن في وعي الأجيال. إنهم قتلوا الجسد، ولكنهم لم يستطيعوا قتل مقامه، تمامًا كما قال الإمام الهادي (ع): “الأئمة شهداء الله على خلقه، وحججه في أرضه” (الكافي، ج1، ص196).

الخلاصة:

حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام) ليست مجرد سيرة تاريخية تُقرأ، بل هي حجة حيّة على أن الإمامة لا تُقاس بالأعمار، بل بالعقول المتصلة بالله. لقد كان الجواد (ع) فيضًا إلهيًا نزل على قلبٍ صغير في السن، كبير في الحكمة، عظيم في العطاء. قهر بعلمه فحول العلماء، وبثباته أربك السلاطين، وبدقة بصيرته أسس مدرسة فكرية تتجاوز اللحظة التاريخية لتخاطب كل زمن.

لم يكن شبابه عائقًا، بل كان برهانًا على أن سن الإنسان لا يُحدِّد طاقته الروحية، بل إن الإدراك وسعة الصدر وصدق التوجه هي التي تصنع العظمة. في الجواد نرى شمسًا أشرقت في سنينٍ قليلة، لكنها أنارت أفق المعرفة لقرون. فذكراه اليوم ليست مجرد بكاء على مظلوم، بل وعيٌ بضرورة التحرر من ظواهر الأعمار، وإعادة الاعتبار للفكر المتصل بالله، ولو نطق من فم طفل.

اللهم يا من اختصصت محمّد بن علي بلُبّ الحكمة في فجر العمر، ويا من جعلته حجّة رغم صغر سنّه، اجعلنا من الواعين أن العطاء لا يُقاس بالزمن، بل بالروح المتصلة بك. اللهم لا تحرمنا نور آل محمد، واملأ قلوبنا بفهمهم، وعقولنا بصبرهم، وأعمالنا بسيرتهم. اللهم بحق الإمام الجواد، انزع منا غشاوة التقليد، وازرع فينا شجاعة الفكر، وصفاء اليقين، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى