ظلّ الساقية

عماد آل عبيدان
في أقصى الطرف الجنوبي لبلدةٍ نسيها الزمن، حيث لا تصِل الكهرباء إلا بعد الفجر، ولا تغادر الذاكرة إلا بعد أن تُطفئ السواقي أنينها، كانت هناك ساقيةٌ منسية. يحلف أهل البلدة أن ماءها لم يجف منذ مائة عام، ويهمس الشيوخ في المساجد أن صوتها يشبه أنين روح لم تكتمل مغفرتها.
عاش “سلمان”، الفتى الثلاثيني الذي عاد من المدينة بعد سنوات من التيه، في بيت الطين المجاور للساقية. قالوا إنه عاد مكسورًا، وقال هو إن المدينة تبتلع الإنسان وتُخرجه دون ملامح. لم يُجادله أحد، فالكل يهاب نظراته الصلبة وكلامه القليل.
حين عاد سلمان إلى البلدة، كانت أمه قد ماتت. وجد بيت الطفولة كما تركه: مكسور الباب، متشقق الجدران، تفوح منه رائحة اللبن والحطب ودموع جدته. في كل ليلة، كان يجلس على عتبة الباب يسمع خرير الساقية، ويرى ظلًّا غريبًا يعبر سطح الماء. لم يُرِد أن يصدق أنه يرى خيال امرأة تُغني كل فجر بصوت لا يُسمع إلا إذا صمتَ القلب.
بعد أسبوع من عودته، زارته فتاة في العشرين من عمرها. كانت اسمها “زهراء”، تعمل في المكتبة الوحيدة في البلدة، وتقول إن جدتها أخبرتها أن بيت الساقية مسكون بحكايةٍ لم تُكتمل. جاءت لتسأله إن كان قد سمع شيئًا غريبًا.
“الغريب هو أنكم ما زلتم تعيشون وكأن الحكايات هي من تحرك الناس، لا العطش ولا الفقر”.
لكنها لم ترحل.
في كل يوم كانت تأتي. تجلس عند طرف الساقية، تتأمل الماء وتحكي له قصة جديدة من دفاتر المكتبة: عن حب لم يكتمل، عن بئر ابتلع رجلًا ثم لفظه شجرة، عن امرأة تلد طفلًا يشبه القمر ولكنه لا يبكي.
بدأ سلمان يسمع الغناء بوضوح. لم يعد مجرد صدى أو خيال. وفي إحدى الليالي، نهض مذعورًا وركض إلى الساقية. كانت هناك امرأة، مبللة الشعر، تغني للظل الذي يُشبهه. وحين اقترب منها، تلاشت.
سأل زهراء في اليوم التالي، فقالت:
“أمي كانت تقول إن الساقية تحفظ أسرار العشاق، ولكنها تسرق من ينسى الحب.”
أجابها:
“وما الحب إن لم يكن لعنة نختبئ منها بين أهداب الحنين؟”
قالت:
“أحيانًا يكون باب الخلاص.”
اكتشف سلمان صندوقًا خشبيًا تحت الأرضية الطينية. مذكرات مكتوبة بخط والده الذي اختفى قبل عشرين عامًا. تحدّثت عن امرأة تُدعى “سُمَيّة”، كانت تظهر له عند الساقية، وأنه أحبها حتى ذاب صوته في صوتها.
وفي إحدى الصفحات الأخيرة كتب:
“أقسم أني لم أخلق هذه المرأة، ولكنها من نسج الماء والانتظار، وأنا عشقتها كما يعشق المجنون شبحًا، حتى صرت أنا الشبح وهي الحقيقة.”
تتوالى الليالي، ويزداد الغناء حدة، وتغيب زهراء فجأة.
في الليلة الخامسة، يسمع سلمان صوتها يُستغاث من قلب الساقية. يركض، يغوص، لا يرى إلا العتمة، ويخرج منها مبللًا بخيطٍ من الشعر الأسود مربوطًا حول معصمه.
يجد رسالة معلقة على شجرة بجوارها:
“كل من أحب عند الساقية، اختُبر بالاختيار: أن ينقذ من أحب، أو أن يبقى حرًّا من لعنة الماء. لقد اخترت أن أكون الغريق.”
يُشاهد أهل البلدة سلمان كل فجر، جالسًا عند الساقية، يقرأ كتابًا دون حروف، ويتحدث مع من لا يُرى. يقولون إن زهراء لم تكن من البلدة أصلًا. وإن سلمان ما عاد من المدينة مكسورًا، بل منغمسًا في سرّ لم يفهمه إلا حين لمس الماء بدم قلبه.
ويهمس شيخ المسجد في خطبته:
“الساقية؟ إنها ليست ماءً… بل ذاكرة.”