أقلام

سلسلة المعارف الجوادية (٢)  قناديل حياتية

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الجواد (ع): (المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)(بحار الأنوار ج ٧٥ ص ٣٥٨).

ما أجملها من تحفة وجائزة سنية ترفد العقول والقلوب بهذا التوجيه نحو صفات وأسس القوة والمناعة والفاعلية في الشخصية الإنسانية، حياة ناجحة وسعيدة مفتاحها الأول العلاقة بالله تعالى والسعي في ميدان الخير والعمل الصالح والترقي في درجات الكمال الإنساني، فمتاهات وصعوبات وضغوط الحياة تحتاج إلى نور هداية يستصبح به الطريق ويعينه على بلوغ غاياته وأهدافه، فهناك عراقيل وأخطاء يمكنه أن يرتكبها الفرد لولا نور الهداية والتسديد الإلهي، فتتوقّد بصيرته ويدرك النتائج المترتبة والآثار الوخيمة لذلك الفعل فيتجنبه ببركة تلك البصيرة، كما أن تسلل فيروس اليأس بسبب الصعوبات وخطوات الإخفاق والصدمات الحياتية قد يشلّ حركته ويسقطه أرضًا، وهنا يبرز دور النور الإلهي بتثبيت الخطى والمد بالصبر والنفس الطويل في مواجهة التحديات وتخطيها، وهذا ما يفسّر لنا حقيقة تلك القامات التي تبقى كالجبال الراسيات في إرادتها وصلابتها في وجه المشاكل، حيث أن القضية ليست أمر صدفة وخبط عشواء بقدر ما إنه خيط نوراني رفيع يمد تلك النفوس الطاهرة المترفعة عن الرذائل؛ ليُلقى عليها الهبات الربانية بالتسديد في خطاها والثبات على قيمها ومبادئها، بل هي روح التوكل والتسليم والرضا بالتخطيط الإلهي وتوجيه دفة أيامه وفق سنة الابتلاء الإلهي.

ومن مفاتيح الحياة والشموخ في الشخصية الإنسانية هو صوت الضمير اليقظ، الذي يعمل على إصدار التنبيهات والتحذيرات متى ما استشعر الخطر والخسارة عند الإقدام على أمر ما في لحظة جهالة أو غفلة، وله صوت عالٍ يؤنب صاحبه إذا ما وقع في فخ شيطاني وتزيين النفس الأمارة بالسوء، فيهرع إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى ويصلح شأنه وينظّف نفسه من شوائب الآثام، كما أنه على مستوى علاقاته الأسرية والاجتماعية لا يتصلّب في مواقفه ولا يتمسّك برأيه وإن انكشف له الخطأ فيه، بل بوصلة حركته تتجه نحو العقلائية والإنصاف ونبذ العدوان على حقوق الآخرين، أما وقد وقع في خلاف أو مشاحنة فهذا لا يعني الاستمرار والتمادي في ارتكاب الأخطاء، بل له نفس تستجيب لصوت الحقيقة والخير والصلاح فيعتذر ويقبل النصح ويتراجع لخطوات عما أساء به، وهذا ما يبرز دور المحاسبة والوقوف أمام مرآة النفس وإقامة المراجعة الذاتية لما يصدر منه، فإن الصدق مع النفس يسهم في شق الفرد طريقه نحو العلياء والتكامل والتخلي بالفضائل، لأنه ببساطة يمتلك الشجاعة على المستوى الشخصي ليعترف بما أخطأ ويجري خطوات تصحيحية.

والمفتاح الآخير في هذه التحفة الجوادية هو المتصف بالنصف من نفسه وتقبل النقد الإيجابي ونصيحة المشفق، التي تسلّط الضوء على فكرة أو حديث أو تصرف صدر منه قد جانَبَ الصواب، فهناك زوايا وموارد قد لا تصل إليه مدركات عقولنا ولا يتبين لنا فيها ذلك الثقب، فتأتي حركة المساندة الجمعية وصوت الصدق والوفاء ممن يرغب في رؤيتنا في أعلى درجات الإنجاز والنجاح، ومن يمتلك روح التواضع أمام عظمة الحق يذعن ويعترف بما أخطأ فيه ولا يكابر ولا يندفع نحو سرد التبريرات الوهمية، فالانتصار الحقيقي لا يكون بفكرة الصوابية المطلقة التي ينتج عنها رفض فكرة النقد والتوجيه من أي أحد، فالغرور ينشأ من فكرة الصوابية المستمرة وتقزيم واستنقاص الآخرين في عقولهم وأفكارهم، أما الانفتاح على رأي الآخر ونصحه فيسهم في تصويب الفكرة والخطوة ويحسّن من الأداء وتعديل المسار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى