أقلام

زواج النور بالنور: قصة تشعل فينا النور وتبعث فينا الحياة

أحمد الطويل

مقدمة:

أيها القلب الباحث عن معنى، أيتها النفس التي أنهكتها أعراس الزيف ومظاهر التكلّف، اسألي نفسك اليوم: ما هو الزواج؟ ولماذا خلقه الله؟ وهل هو إلا وسيلة عبور إلى الطمأنينة؟ أهو حفلة صاخبة أم بناء مقدس؟ هل هو صورة على وسائل التواصل أم كتابٌ يكتبه الله بأيدينا؟

الزواج في اللغة هو الاقتران والاتحاد، وفي الاصطلاح هو ميثاقٌ يربط بين روحين تحت سقف العهد الإلهي. لكنه في حقيقته ليس عقدًا ورقياً بل التقاءٌ بين قدرَين، بين نَفَسَين أراد الله لهما أن يكونا سكنًا ومودة ورحمة. قال الله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها}، فالسكن هنا ليس سكن الجسد فحسب، بل سكن الروح والعقل والقلب. إنّه إحدى آيات الله الكبرى، ومع ذلك أضاعه الناس بين صخب الحفلات والديون الثقيلة واللهو المحرم. لكن، لحظة، تعال نرتقي، تعال نُغسل أعيننا من ضباب العادة، وننظر إلى زواجٍ ليس ككل زواج، زواجٍ كتبته السماء قبل أن تكتبه الأرض، قصة خُطّت في الأزل وأشرقت في المدينة: زواج علي بن أبي طالب بفاطمة الزهراء عليهما السلام.

اتحادٌ كتبه الله قبل أن يُخلَق الإنسان

ليس زواج علي بفاطمة مجرد لحظة تاريخية، بل هو صفحة من لوح المحفوظ، هو اتحادٌ نوراني شهده العرش قبل أن تراه الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله زوّج عليًّا وفاطمة قبل أن يخلقهما بألفي عام (بحار الأنوار، ج 43، ص 107). فما معنى هذا؟ إنه إعلان أن زواجهما لم يكن مجرد حدث بل تجلي إرادة الله في الأرض، كان زواجًا بين عقل الإمامة وقلب العصمة، بين شجاعة السماء وعفّة الجنة. ولأنهما نوران، فإن اتحادهما ليس كسائر الاتحادات، هو التقاء شمسيّ وقمريّ يضيئان الكون، ويكونان ذرية طاهرة تتجلّى فيها كل معاني النبوة والإمامة. ألم يقل الله: {الله نور السموات والأرض}؟ وقد فسّر العلامة الطباطبائي أن المصباح والمشكاة والزجاجة في هذه الآية هم رموز لأنوار أهل البيت (الميزان، ج 15، ص 123). هذا هو زواج النور بالنور، وليس شيئًا أقل من ذلك.

حيث تكون القناعة عنوان العظمة

انظر كيف بدأ زواج النور: بدرعٍ واحدة، مهر فاطمة كان درعًا من دروع علي، بيع بأربعمائة وثمانين درهمًا (الكافي، ج 5، ص 377). أي زواج هذا الذي لا يساوي حُليًّا ولا قصورًا لكنه أغلى من كنوز الأرض؟! وأية وليمة تلك التي لم يكن فيها طهاة ولا ضجيج، بل شاةٌ واحدة تُطعِم فقراء المدينة، لأن الكرامة لا تحتاج إلى طاولات مكسوة بالمفارش، بل إلى نوايا مكسوة بالتقوى. قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}، وهل بعد هذا كلام؟

لقد أراد النبي أن يجعل من هذا الزواج مثالًا لكل من أراد أن يُرضي الله لا الناس، من أراد بيتًا في الجنة لا صورة في الذاكرة، فهل نعي الدرس؟

الحب خدمة، والاحترام عبادة

في هذا البيت الطيني، عاشت أعظم امرأة، وسكن أعظم رجل بعد النبي، وما بينهما كان مدرسة. لم يكن بينهما خادمة تُدير الشأن، بل كان علي يحطب ويستقي، وكانت فاطمة تطحن وتعجن، كما روى الإمام الصادق (ع) (الكافي، ج 5، ص 87). وكان الاحترام بينهما يفوق الوصف، حتى قال علي عليه السلام: ما أغضبتها قط ولا أكرهتها على أمر، ولا أغضبتني يوماً ولا عصت لي أمرًا (الاحتجاج، ج 1، ص 96)

أي حبٍ هذا؟! أي حوار؟! أي تفاهم نُسج بين جدرانٍ لا تُسمع منها موسيقى، بل يُسمع منها صوت التسبيح والقرآن؟ هنا نفهم كيف أن بيتًا لا تملؤه الكماليات قد تملؤه الملائكة، وكيف أن الاحترام لا يحتاج تعليمًا جامعيًا بل يحتاج قلبًا نقيًا

من بيت فاطمة تبدأ الأمة

ما نحتاجه اليوم ليس أفراحًا بل فَرحًا يُرضي الله، لا نحتاج قروضًا بل بركة، لا نحتاج صالات فخمة بل نوايا صادقة. حين نُعيد فهم الزواج كما فهمه أهل البيت عليهم السلام، يصبح اختيار الشريك مسألة دين لا شكل، والتقوى لا الحساب البنكي، ويصبح حفل الزواج مناسبة للتذكير بالآخرة لا بالتصوير للناس، وتتحول علاقتنا الزوجية إلى ساحة محبة ورحمة لا صراع وسيطرة.

زواج علي وفاطمة هو البوصلة التي إن اتبعناها عدنا إلى الله، وخرج من بيوتنا حسينيّون وزينبيّات يغيّرون مجرى الزمن.

الخلاصة:

إنّ بيت علي وفاطمة هو الرسالة التي نحتاج أن نقرأها كلما هممنا بالزواج، هو مرآة لما يمكن أن يكون عليه الإنسان حين يختار الله رفيق دربه. زواجهما ليس أسطورة، بل هو تجربة حيّة يمكن أن نحاكيها، إن نحن أخلصنا النية، وتركنا الزيف، وفتحنا بيوتنا للنور لا للمظاهر. هذا البيت لم يكن في حي راقٍ، لكنه كان أرقى بيت في التاريخ. لم يكن فيه رفاه، لكن فيه تجلّت المودة والرحمة.

اللهم اجعلنا وذرياتنا ممن يسيرون على خُطى علي وفاطمة، نختار كما اختارا، ونعيش كما عاشا، ونحب كما أحبا، واجعل بيوتنا نورًا كما كان بيتهما، طاعةً كما كانت طاعتهما، ورحمةً كما كانت رحمتهما، يا أرحم الراحمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى