الملا علي توفيق…منبرٌ لم يعلُ صوته فقط، بل ارتفع بمعناه

عماد آل عبيدان
لم يكن يعلو صوته على أحد، ولكن أثره ظلّ أعلى من أن يُنسى. ولم يكن يطلب لنفسه منزلة، بل كانت هي تتقدّم نحوه دون أن يدعوها.
“أتته الشفاعة تسعى إليه”
في القديح، حيث تنمو المعاني في التراب قبل الحروف، وُلد رجلٌ لم يكن عاديًّا في حضوره، ولا في غيابه. كان هو: الملا علي بن ناصر آل توفيق، (1338هـ – 1408هـ)وما كان لأحد أن ينطقه، إلا وتسلّل الاحترام إلى نبرة صوته وسرى إلى أعماقه دون أن يشعر. لم يكن الخطيب الذي يترقّب تصفيق الحاضرين، بل كان يُلقي كلماته على منبرٍ من نور، وينصرف كما جاء: متواضعًا، مطمئنًا، مشبعًا بالإيمان. في كل زاوية من زوايا المجلس، كانت له هيبة، هيبة الواثق الذي يعرف أن الذي يزرعه سيُثمر، ولو بعد حين هذا ما وجده منه مَن عاشره وعاش زمنه. هو من جيل الرجال الذين لم يصنعهم ضوء الإعلام، بل صقلهم الصبر، وثبّتهم الإخلاص، ورفعهم النقاء. كانت المجالس الحسينية تشهد له، لا بكثرة ظهوره، بل بعمق حضوره. إذا تحدّث عن الحسين، شعرت أن الكلمات خرجت من قلبه مباشرة، وأن الصوت الذي يصدح على المنبر، لا يشبه ما نسمعه عادة. كان نبرةً متفرّدة، تُوقظ شيئًا في داخلك، لا تدري كيف بدت بعد خفوت. المعلم، كما أحبّ الناس أن يُنادوه، لم يكن يقرأ النصوص، بل كان يعيشها. يرى في عاشوراء قضية، وفي القرآن رسالة لا تُدرّس فقط بل تُعاش. كان من أوائل من أمسك بيد الطفل المرتبك في الكتاتيب، ولقّنه الفاتحة كما يلقّن الأب قلب ابنه النبض الأول. وكم من نفسٍ مرّت تحت يديه، وخرجت تحمل من أثره شيئًا لا يزول. هو رجلُ التفاصيل الهادئة. لا يحتاج إلى منبر ليرشد، يكفي أن تجلس بجانبه، فتشعر أن حديثه صلاة غير منطوقة، حتى في وجعه، حين بدأ المرض ينال من جسده، ظلّ واقفًا في المعنى. لم تبهته العمليات، ولا أنهكه الألم، بل بدا كأن المرض هو من خجل من صبره. وقد روى ابنه، الحاج المرحوم محمد بن الملا علي آل توفيق، في كتابه “ذكرى أبي”، موقفًا إنسانيًا بالغ التأثير، حين دخل على والده في إحدى ليالي المرض، فوجده يحاول أن ينام تارة، ويحرك يده اليمنى تارة، ويجود بالشهادة رغم اشتداد الألم. يقول في وصفه الدقيق: “كنت أراقب تلك الحركات… فبادرته بالسلام، فردّ السلام، وقال: اذهب، فالوقت متأخر، لا داعي لسَهرك. واسَيتُه، فابتسم، ثم سألته: هل تحتاج إلى طبيب؟ فأجابني: أنا لست بحاجة إلى دواء، فليس هناك ما يُجدي نفعًا بعد أن عجز الأطباء.” هذه الكلمات القليلة تكفي لتلخّص مدرسة كاملة في الرضا، والثقة، والصبر. رجلٌ بلغ من الإيمان مبلغًا لم يعد فيه للدواء سلطة على الجسد، ولكن بقي للدعاء موضع في القلب، ولليقين ملاذ في الروح. وإن كان الجسد قد غاب، فإن المدرسة التي أسّسها، لا تزال قائمة. لا أقصد جدرانًا أو صفوفًا، بل أقصد نمطًا في التربية، في الخطابة، في السكينة، في الوقوف مع النفس والناس والله. وفي بيته، ترعرع من حمل الأمانة. المرحوم الحاج محمد بن الملا علي، الشاعر الذي سطّر بين دفّتي “ذكرى أبي” ما لم تستطع آلاف الكلمات أن تقوله. وفي الكتاب، تتجلّى سيرة لم تُكتب لأجل البكاء، بل لأجل الاستمرار.
وان كنت قد ذكرت ابنه الأكبر للاستشهاد بما قاله فإني لست بصدد ذكر أبنائه للتعداد فكل من عرفه كان إبناً له ومنهم من هم من أقرانه ومكانته الاجتماعية ولكنهم يعترفون أنه أبوهم.
ولأن الأرض لا تنكر فضل منأ رواها، فإن القديح لا تزال تذكره، تهمس باسمه كلما عبرت المجالس، وتستحضر صوته حين يصعد خطيبٌ إلى المنبر، وكأن في الأرجاء بقايا منه لا تُمحى. لم يكن الملا علي توفيق رجلًا يملأ المكان، بل رجلًا يُكسب المكان هيبته. وإنْ سألوا عن معنى التواضع، عن صدق الخطاب، عن الأبوة الإيمانية، عن الرجولة حين تختلط بالرحمة، فليقرؤوا اسمه… فليسمعوا صوته كما سُمع، حيًّا، باكيًا، صامتًا، مؤمنًا. رحمك الله أيها العلم الذي ما غبتَ عن الأرواح، حتى وإن غبتَ عن العيون… فمن نذر نفسه لله، لن يخفت صداه في الأرض.