الرؤية الوجودية

السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام الحسين (ع): أما بعد، فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل، والسلام )(بحار الأنوار ج ٤٥ ص ٨٧).
كلمات عالية المضامين تختزل قصة الإنسان في الدنيا والعمر الذي يقضيه دونما تفاصيل تتوه معها العقول الحائرة والنفوس المنساقة خلف الأهواء، فإن الدنيا كقطار يركبه البعض عند أولى المحطات ويحط منه آخرون في المحطة القادمة وهكذا، فليسارع المرء للتخلص من شرنقة الوهم والغرور والسير خلف حركة الدنيا الفاتنة ومتاعها الزائل الذي يقود المرء نحو هاوية استبعاد دار الحساب والتعلق القلبي والعقلي بمظاهرها المادية في نظرات سرابية ووهمية تغفل عن حقائق على أرض الواقع، فإن النظرة الوجودية للإنسان بكينونته المادية والروحية والعقلية تستنكف له دور البهيمية والاقتصار على حياة الغرائز، لنصل إلى الرؤية القرآنية المتوافقة مع البصيرة العقلية، التي تؤصّل لفكرة الارتباط بين عالم الدنيا وميدان العمل فيها، وبين عالم الحساب في الآخرة. فالحياة الحقيقية تحليق الروح في فضاء الكمال والتزود بالفضائل والطهارة النفسية من الرذائل الأخلاقية والنقائص.
عندما نختزل الرؤية الوجودية للدنيا نصل إلى نتيجة مفادها أنها مرحلة مؤقتة بأجل مسمى ثم بعده تبدأ رحلة الرحيل بغض النظر عن تلك التجربة في قصرها أو طولها، لا تختلف عن حركة الأرض حول نفسها ناتجة عنه الشروق والغروب والأفول، فهي وجود مؤقت كبذرة أخذت دورتها الحياتية ثم اصفرّت وتلاشت، وتبعًا لهذه الحقيقة تحدث للإنسان استفاقة من غفلته وأوهامه وآماله المتطاولة لسقف الخلود واستبعاد فكرة الرحيل، وينتج عنه تطلّع وتصور لوجود الإنسان وفق فكرة التعالي عن مستنقع المعايب والتحرر من أغلال النزوات والجشع والتصرفات الانفعالية (الغضب)، ويعدّه إلى فكرة الاستقامة والنزاهة النفسية وتهذيب السلوك بما يصنع منه إنسانًا تكامليًّا، وبذلك تكون فكرة الموت ليست إلا قنطرة ومرحلة نحو العبور إلى المستقبل والمصير الحقيقي.
ثم يظهر الإمام (ع) حقيقة الآخرة لا بالنظر الزمني وتأخرها ولحوقها بعالم الدنيا، فهي الوجود والمستقبل الحقيقي المرتبط بالإنسان قبل وجوده، فعالم الآخرة هو المستقر والمستقبل الذي تتوجّه من خلاله بوصلة العمل والمسعى والغايات في عالم الدنيا، وبهذه الرابطة الوازنة بين الدنيا والآخرة تتجلّى معالم الفكر الواعي والانضباط وفق القيم الأخلاقية، بعيدًا عن تحكّم الأهواء والشهوات والاستجابة العمياء للنزوات والغرائز.
حالة السلام والتصالح مع الذات والراحة النفسية هي نتاج هذه القناعة والحقيقة الحاضرة بأن الدنيا عالم الفناء والزوال، فتهدأ النفس والمشاعر أمام كل التحديات والمصائب بل وتقابلها بطمأنينة ويقين، فغشاوة الغفلة في الدنيا سببها عمى البصيرة عن عالم الآخرة واستبعاد فكرة الرحيل بحقيقته وتبعاته، فعندما تنكشف الحقيقة تنكسر مرآة الأوهام المتعلّقة بالاقتدار المطلق والخلود.