أقلام

الحجّ سفرُ القلوب إلى الله

أحمد الطويل

مقدمة:

حرقة الذاهبين بالبصر، والواقفين بالروح.

ها هو موسم الهجرة إلى الله قد أطلّ، وها هي القوافل تشقّ طريقها نحو الكعبة المشرفة، تهتف بكل لغات الشوق: “لبيك اللهم لبيك”. تسري أصواتهم في الأرض، وتنعش الأرواح المتعبة بوهج التلبية، وأنت هناك، تستمع، لا من مكبرات الصوت، بل من مكبرات القلب.

لكن في زوايا أخرى من الأرض، عيون تترقّب، وقلوب تنفطر: لم يُكتب لها هذا العام أن تكون هناك، وإن اعتادت الحج عامًا بعد عام، خدمةً وتضرّعًا. كم من جسد بقي في مكانه، ولكن قلبه سبق الركب، يطوف سرًا، ويبكي في الخفاء.

دعوة الزفاف ودمعة المفارقة

لطالما كنت هناك، منذ سنة 1416هـ، خادمًا لضيوف الرحمن، تألف وجوه الزملاء، طرق القوافل، وحتى التعب. ولكن هذا العام، لم تكن في مكة. بل كنت مدعوًا إلى حفل زفاف في أول موسم الحج. لبّيت الدعوة، وجلست بين الناس، وبدأت الأسئلة تنهال:

“ألم تذهب هذه السنة؟ متى ستلتحق بالقافلة؟”

تبتسم، تحاول أن تخفي ارتعاشة القلب. تنتهي المناسبة، تركب سيارتك، تغلق الباب وتنهمر دموعك، دون مقدمات، على خدك. ليس حزنًا عابرًا، بل وجعٌ أصيل يعرفه كل من ارتبط بالحج روحًا وجسدًا.

حين يُكتب لغيرك ويُغلق دونك الباب

تراقب زملاءك وقد وُفِّق بعضهم هذا العام لزيارة النبي ﷺ، أو أحد المعصومين عليهم السلام، في المدينة أو في مشاهد الطهر الأخرى، بينما أنت لم تُكتب لك لا مكة ولا المدينة. تحمد الله لهم، ولكن القلب يحترق في صمت. لا حسد، بل وجع العادة، وحرقة الانقطاع.

حين يكون الطريق إلى الله مفتوحًا، والجسد خلف الحواجز

ليس كل من حجّ هو حاجّ، وليس من بقي في بيته بعيدًا عن الرحيل. إنّها لحظة يختبر فيها المؤمن صدق الشوق، حين يُحرم من الحج رغم استعداده، رغم أن قلبه سبقه إلى عرفات، وطاف في منامه بالكعبة، وذرف دموعه أمام باب الرحمة. وهنا يصبح الحج امتحانًا للنية، ومقامًا من مقامات الصبر، وفرصة للارتقاء القلبي لمن مُنع جسده ولكنه لم يُمنع روحه.

الحج في النصوص: نداء أزلي وجزاء أبدي

قال الإمام الصادق عليه السلام: “ما تُرك شيء أحبّ إلى الله من أن يُزار بيته ويُطاف به، وإن لله بكل خطوة يخطوها الحاج عتقًا من النار” (وسائل الشيعة، ج11، ص16).

وفي تفسير قوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]. قال الإمام الباقر عليه السلام: “نادى إبراهيم بالحج، فلبّى الناس في أصلاب آبائهم”، إشارة إلى أن نداء الحج أزليّ، وجوابه يمتد عبر الزمن، لمن لبّى بالنية قبل الجسد.

من استطاع سبيلًا فليغتنم الفرصة قبل أن تُطوى الصحائف

إلى أولئك الذين ما يزال الطريق مفتوحًا أمامهم، ولم يثقل كاهلهم المرض أو تُقفل في وجوههم الأبواب: لا تؤجّل. لا تنتظر عامًا قادمًا قد لا يأتي. إن الحج ليس عادة سنوية، بل نداء استثنائي من السماء. من أجاب نجا، ومن أخرّ قد لا يُنادى مرة أخرى.

حجّ النبي ﷺ وحجّ الحسين عليه السلام: طوافان في طريق واحد

وقف النبي الأكرم ﷺ في حجة الوداع، يضع أسس الرسالة ويودّع الأمة، معلنًا التمسك بالثقلين. وبعد سنوات، وفي ذات الأيام، خرج الحسين عليه السلام من مكة، ليؤدي حجًا من نوع آخر: حج الفداء. قال الإمام الصادق عليه السلام:

“كأنّي بالحسين صلوات الله عليه خرج يوم التروية، وقد أحاط به الجلال الإلهي، وقرر أن يفيض بدمه بدلًا من الماء”

(بحار الأنوار، ج44، ص329).

هكذا علّمنا الحسين أن الحج ليس طقوسًا فقط، بل موقف، واختيار، وانتصار للحق.

دعاء الافتتاح: نداء القلوب الممنوعة

في ليالي رمضان، يتردد دعاء يهزّ القلوب: “اللهم بلغنا حج بيتك الحرام في عامنا هذا، وفي كل عام”.

هو ليس أمنية، بل مشروع إلهي. يُقال بدموع المشتاق، ويُكتَب بنيّة العاشق. هو وصية للمستطيع بأن لا يؤجّل، وهو عزاء للمحروم بأن نيته قد تُكتب له حجة، وإن بقي في مكانه.

الحج في فلسفة الإسلام: من “أنا” إلى “نحن”

يرى الفلاسفة، كما عبّر العلامة الطباطبائي في الميزان (ج14، ص306)، أن الحج هو توحيد عملي، يُظهر فيه العبد خضوعه الكلي بجسده وروحه، في لبس الإحرام، وترك الزينة، والاختلاط بالمؤمنين، والطواف بالبيت العتيق. هو رحلة من الفردية إلى الجماعة، من ضيق الذات إلى رحابة الأمة.

الخلاصة:

الحج ليس مجرد أداء شعائر زمانية ومكانية، بل هو رحلة وجودية تتجاوز الجسد لتصل إلى أعماق الروح، حيث يسافر القلب إلى الله ولو بقي الجسد حبيس المكان. إنه موسم للتجرد، للذوبان في بحر التوحيد، وللتطهر من رواسب الحياة، سواء عبر المشي في الطرقات المؤدية إلى مكة أو عبر الدموع المتساقطة في لحظات الحرمان.

تتجلّى معاني الحج بين من كتب الله له أن يكون من الملبين، وبين من وقف خلف الحواجز يشاهد القوافل تُسافر وهو عاجز عن اللحاق بها، وقد اعتاد منذ سنوات أن يكون من خدام ضيوف الرحمن. تتجدد الحسرة حين يرى زملاءه قد وفقوا لزيارة النبي الأكرم ﷺ أو أحد المعصومين، وهو يُمنع حتى من هذا القرب الروحي، وكأن الطريق إلى الله قد ضاق عليه رغم اتساعه لغيره.

وفي خضم هذا الشوق، يُصبح الدعاء هو الزاد، وخاصة دعاء الافتتاح، الذي يتكرر في ليالي رمضان: “اللهم بلغنا حج بيتك الحرام في عامنا هذا، وفي كل عام”. دعاء يتجاوز كونه أمنية، ليصبح مشروعًا قلبيًا متكاملًا، فيه نية وتهيؤ وانتظار.

وتكتمل الصورة بذكر قول الإمام الباقر عليه السلام في تفسير نداء إبراهيم للحج: “لبّى الناس في أصلاب آبائهم”. فالنداء أزلي، والجواب متجدد، لكل من نوى وسعى وإن لم يُكتب له الحج.

ومن مشهد حجة الوداع، حيث النبي الأكرم ﷺ يضع أُسس الأمة، إلى مشهد الحسين عليه السلام وهو يغادر مكة في يوم التروية ليؤدي حجًا من نوع آخر، يتضح أن الحج ليس طقسًا فحسب، بل موقف، وفداء، ووفاء للعهد الإلهي.

إنها لحظة امتحان روحي: من كُتب له الحج فليغتنم، ومن لم يُكتب له، فليحمل نيته في قلبه، فإن الله لا يحرم عبدًا صدق في طلبه، وإن منعته الظروف. فالأبواب قد تُغلق على الأجساد، ولكن الأرواح تبقى سائرة على الدرب، تطرق باب الرحمة بالدعاء والدموع واليقين.

اللهم إنك دعوت عبادك إلى بيتك الحرام، فلبّوا نداءك، وساروا بأجسادهم وأرواحهم نحوك، اللهم لا تحرمنا لذة الوقوف بعرفات، ولا الطواف ببيتك العتيق، وإن كانت الظروف قد منعتنا، فلا تمنع أرواحنا من الارتقاء إليك، واجعل لنا نصيبًا في كل حج، ولو بالدعاء والنية، وارزقنا حجًّا مقبولًا في عامنا هذا، وفي كل عام، مع محمدٍ وآل محمد، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى