قراءتي في ديوان (سفر في الذوات) ناجي حرابة

علي الوباري
لست من المخعصين في استجلاء معاني الشعر، ولكن باعتباري متذوقًا متواضعًا للشعر والنثر، وهي إحدى علامات أي عربي، فالشعر ديوان العرب، فالكلمة الشعرية والنثرية ذات الوزن والموسيقى يتحرك معناها لدى المتلقي، فيتفاعل مع جمال الصور والتشبيهات والاستعارات في قوالبها اللغوية المبهرة بدهشة ملفتة حين يقرأ ديوانًا يتضمن معاني عميقة تتجاوز التجربة الشعرية الذاتية.
من الأفكار التي داعبت وجداني أثناء القراءة والتأمل هي اعتياد الإنسان السفر على القدمين، وأنه حاول السفر إلى مسافات بعيدة فاتخذ كائنات حية مركبًا ليقطع مسافات، واخترع أدوات يسافر بها عبر البحر والبر وارتفع بالجو لمسافات إلى ما وراء المحيطات، ويتوق كل امرء أن يسافر إلى المواقع والأماكن النائية، ويسافر خارج ذاته وهو سفر خاص للشاعر بروحه إذا اثقلته الأيام بحمولة الهموم، فيتخلص من الضغوطات والأعباء النفسية التي تثقل كاهله، فالسفر من الذات إلى الذات لا بد من تذاكر يستقطعها من مفردات ومعاني الذات تخرج من المخيلةةموقعة بكلمات تخزّنت في الذاكرة يعيشها الشاعر منذ طفولته، ومنذ تعثر قدميه وتلون ذاكرته بمكنونات ذاتية مفهومة ومبهمة يحاول أن يفك شفراتها إذا وصل إلى محطة النضج الإبداعي، فيسافر إلى محطات متفرقة سواء جغرافية أو في نفوس الناس والكائنات ويغوص في أعماق الأرواح، فيستعين بالأصدقاء وسمرهم وحوارتهم ومشاركتهم في الذكريات، ويسافر في ذواتهم على أجنحة الكلمات التي تلد معاني من رحم الذاكرة والخيال والتأمل، يطرح الشاعر اسئلة وجودية بحثًا عن ذاته أو هروبًا من ذاته إلى ذوات الآخرين، هكذا شاعرنا ناجي حرابة الذي عنون ديوانه ب (سفر إلى الذوات).
لماذا اختار حرابة (الذوات) ذوات الأشخاص والأشياء؟ هل الذات تتشذى عدة ذوات في مسيرتها نتيجة الأحداث والمواجهات، أم أراد الشاعر أن يسبر ذوات غيره ويرى نفسه في مرآة الآخرين، لماذا اللجوء إلى ذوات الآخرين؟ هل هو البحث عن ذات أخرى يجد نفسه فيها أو يقارن ذاته بذوات غيره ويريد أن يستريح بوجع غيره ويأنس بأشواق المحبين فيستزيد منهم ليعبر عنهم بكلماته وإبداعه، أم هو السفر إلى ذوات الغير بمعنى الهروب من الذات بحثًا عن السلوى في آلام غيره حتى ينسى همومه؟ ربما يريد أن يفجر ثورة تأملاته في ذوات الآخرين مثل ما عبر حرابة:
سأطلق من وحدتي سفرًا في الذوات، بداية الانطلاق للآخر تبدأ من النفس، يريد أن ينعتق من وحدته إذا انطلق لغيره.
أو أراد حرابة من السفر كما قال ابن عربي:
”السفر هو معبر لذواتنا الحقيقية.“
أصعب ما في السفر إذا اتخذت الكلمات تذاكر خصوصًا في البدايات:
سأثقب سجني لأطلق سرب الحروف بعيدًا
إلى حيث تبني الخيالات أعشاشها عاليًا في الذرى،
ما اجمل هذه الصورة فهو يحاول من خلال الثقوب أن يحرر الحروف المحبوسة في أعماقه لبناء عالمه بالخيالات في أعشاش شاهقة.
ويقول في قصيدة هذيان فكرة:
أم تراني اقترفت الكتابة من دون طهر
وقد آن من عثرة أن اتوب؟
يريد أن يتوب من جناية الكتابة التي ولجها بدون طهارة، الكتابة فعل سامي في محراب الحياة يحتاج غسلًا.
يستدعي الشاعر تاريخ بعيد بكائنته المنقرضة وطقوسه المنتهية مثل الولادة والحنين والبشائر بواسطة القابلة:
أين ذاك الحنين إلى النسل؟
هل ماتت أيضًا؟
وماتت طقوس الولادة
وانقرضت قبرات البشائر
في راحة القابلة؟.
وفي قصيدة أمل وشيك يبحر بنا حرابة من سفينته الداخلية التي ترف بألف شراع وشواطئ فرحة
سفينتا بداخلنا
ترف بألف الف شراع
وتلك شواطئ جذلى تلوح
لا يكف وداع.
ويبدع الشاعر في قصيدته فن الحب حين يزف رسالة متضمنة خريطة حب جيشها وعسكرها المشاعر الصادقة وهي أسلحة السلام والأمان حين تعم مشاعر الود:
تعال لننشر خارطة الحب
نفضح سر جيوش المشاعر
نفهم كيف يصنع أسلحة للسلام.
وما يزال الشاعر يبحث عن ذاته ويعود إليها مرة أخرى، يريد أن يكشفها واضحة كالنهار في قصيدة سفر آخر في الذات:
إلى ذاتي الأولى
ارتحلت مولهًا
أشق- لتعرى كالنهار- سجافها.
ويكرر شاعرنا الرحيل في قصيدة مرايا النار:
لترحل في غابة الوقت ريحًا
ما أجملها من صورة “غابة الوقت”، ويختم هذه القصيدة بمقطع عميق بدايته: أنا فتنة النور .
وفي قصيدة الليل مقتدحًا رؤاه:
يصور الليل كالصحراء التي غادرته الخيل:
يا ليل
بيداؤك ارتحلت وغادر كل خيل.
وفي قصيدته مقاومة، يبدع الشاعر في معنى المقاومة بأن النخيل تقاوم جوع الصحراء بتمرها:
النخيل
تقاوم جوع الصحاري،
والشاعر
يقاوم الظلام والهموم بالكتابة حين يستل قلمه ليهزم جيوش الهموم حين تحاصر قلبه:
وأنا بالكتابة أشعل عود مقاومتي
ضد جيش الهموم
الذي حاصر القلب طغيانه بالكتائب.
من يقرأ ديوان (سفر في الذوات) يرى أن حرابة تجاوز مرحلة النضج الشعري والفكري، وبدأ مرحلة تكوين النظرة الفلسفية لما لديه من أفكار ورؤى ومفاهيم، فينظر للأمور بنظرة المتأمل الذي يصيغ المعاني من وحي ذاته وثقافته المتكونة من القراءات والتجارب والإبحار في الذوات، نظر حرابة للكون وما فيه من كائنات بنظرة فلسفية ونقش بصمته المعرفية وطبع تجلياته الروحية بالشعر بمعنى يخصه ويترك القارئ يستخرج المعنى أيضًا من خلال ثقافته ونظرته للحياة.
هل ضاقت نفس حرابة حين نبش في أعماق الأرض عن الماموث:
أيها الضخم عاجلتنا بامتطاء الفناء وأيامنا في دروب الحياة
على مهل راحلة.
استحضر زمنًا ممتدًا إلى ما قبل الميلاد حين عكس فلسفة سون تزو في فن الحرب إلى فن الحب وإدارة الغرام والحب:
تعال لنكتشف الآن كيف تدار حروب الغرام
حتى يقول إنه الحب
يجثو على بابه المستحيل.
وللمكان غير الموصولة معنى عند حرابة استدعى الغموض، ويتمنى أن يرى الذي لا يُرى في قصيدته برمودي، حين يقول في معنى
من أين يبتكر العقل تأشيرة الدخول؟.
بين سفر أولي في ذات حرابة:
هنا أنا والشعر والكون واللا أحد، ربما تبرز أنا الشاعر الكبرى واستحكامه على الكون وسفر آخر في الذات حتى يحرم على الباب وبقلبه يسعى وبالوصال يؤدي الطواف:
على بابها أحرمت
والقلب قد سعى
وأتيت من فرض الوصال طوافها.
يبقى السفر الأطول كما يُذكر “سفر الإنسان إلى ذاته،أطول رحلة إلى أقرب مكان”، أو سفر الروح على أجنحة القصائد تبرز فلسفة الشاعر في الحياة.