بالقديح عدسةُ زمن وذاكرةُ بلدة

عماد آل عبيدان
لا يُمكن الحديث عن الهوية المجتمعية دون التوقّف عند أولئك الذين يحفظون وجوهها من التلاشي، أولئك الذين يأبون أن يُدفن الزمان دون شاهد، وأن تمرّ الحكايات دون أثر. التوثيق ليس فعلاً عابرًا ولا هواية عادية، بل هو نبض من يرفض النسيان، ومقاومة هادئة ضد اندثار التفاصيل. هو حرفة العاشق الذي يرى في الوجوه مأوى، وفي الأزقّة سردًا، وفي الذاكرة كنزًا لا يُفرَّط فيه.
في بلدتنا القديح، تلك البلدة التي تشبه نبضًا قديمًا لا يزال حيًّا في صدور ناسها، ظهر رجال لم يكونوا كتّابًا ولا مؤرخين بالمعنى التقليدي، لكنهم حمَلوا على عواتقهم شرف التوثيق، ورُقي الحفظ، وصدق الانتماء. ليس بالكلمات وحدها، بل بعدساتهم، بتعليقاتهم، بلحظاتهم التي التقطوها قبل أن تتبخر من الذاكرة الجمعية. هؤلاء ليسوا مجهولين، بل وجوههم مألوفة مثل شوارع البلدة، مثل المآذن، مثل رائحة الطين بعد المطر.
من بين هؤلاء، يبرز الأخ أبو محمد نوح الجارودي، ذلك الذي لم يكن يحمل كاميرا فقط، بل يحمل احترامًا عميقًا لكل تفصيل من تفاصيل المكان، وذاكرة مصغّرة منقوشة في قلبه قبل أن تُنقش على الصورة. التوثيق عنده لم يكن مجرد نقل صورة، بل احتضان لحظة، ورصد روح، وبناء جسر خفي بين الماضي والحاضر.
ويوازيه في الحضور الأخ عبدالله الحصار، الذي يمكن وصفه بـ”المُصوّر الجائل”، ليس لأنه يتنقل فقط بين الأماكن، بل لأنه يتنقل بين القلوب والوجدان، ملتقطًا اللحظة قبل أن تفلت، مخلّدًا الوجوه قبل أن تبهت في الذاكرة. ذاكرته البصرية لا تقل عن عدسته دقة، يحمل مزيجًا من الانفعال والوفاء، وكأن التصوير عنده طقس وجداني، وليس مهمة تقنية.
ولم تكن هذه الساحة الإبداعية يومًا حكرًا على أسماء بعينها، فالقديح ولّادة، ومَن حمل الكاميرا وتجول بين أحيائها كثيرون، وكلٌّ منهم له حكاية جديرة أن تُروى. من هؤلاء: محمد العرفات، أبو الرحي، إبراهيم الحمام، أحمد طحنون، عبدالكريم عبدالنبي، مهدي عبدالنبي، النخلاوي”نصر الـ ربح”، وسلسلة طويلة من المبدعين الذين أسسوا لذاكرة بصرية تنبض بالتفاصيل.
كما لا ننسى موقع أنوار القديح الذي، وإن أغلق، بقي أثره في الذاكرة، ولا من أضاءوا المشهد المعاصر عبر الإنتاج الرقمي: السيد نزار آل السيد ناصر، السيد نزار أبو الرحي، عقيل الجارودي (زوايا عقيل)، حسين الدخيل، السيد فاضل بدر، الدكتور السيد هاشم أبو الرحي، والمغاسلة، وغيرهم من أصحاب الاستوديوهات الذين وثّقوا أفراح الناس ومناسباتهم بحب.
وحين نصل إلى الجيل الرقمي، يبرز وجه شابٍ نقي الحضور، مليء بالحماسة، اسمه حسين العبيدان، وهو صوت الفيديو المتألق في زمن التوثيق المتحرّك، صاحب برنامج “ رجالات القديح” الذي لا يُقدّم فقط لقاءات، بل يروي سِيَرًا، ويحيي ذاكرة شعبية ضاجة بالحياة. برنامجه ليس توثيقًا عابرًا، بل وثيقة حية تجمع بين الكلمة والصورة، وتُحدّث الحنين بلغة العصر.
من لقاءه مع الحاج رضي أبو شعر، إلى توثيقه مسيرة الملا محمد عبدالنبي، وتغطيته لزوايا منسية من القديح، كـ“ مواطير علي بن رضي”، يُدرك المتابع أن هذا الشاب لا يروي ما كان فحسب، بل يُهيئ لما يجب أن يكون محفوظًا.
إن ما يصنعه هؤلاء لا يُقاس بعدد الصور ولا المشاهدات، بل بالرسوخ في الوجدان. هؤلاء يمدّون أرشيف القديح بفصول جديدة، متينة، مشغولة بالحب والانتماء، وهم لا يتقدمون الصفوف، لكنهم جذور نابتة، سرّها في العمق، وثمارها في الوعي الجمعي. وكل واحد منهم، دون استثناء، يستحق أن يُفرد له مقال، بل كتاب.
هذه المقالة، إذ تسلط الضوء على عينة من هؤلاء الكرام، فهي لا تقصد الحصر، كما قال الأخ العزيز الحصار في إشارة لافته، فالقديح ولادة، والمبدعون فيها كُثر، متعددو الوسائط، متنوعو الطرائق، يحملون في قلوبهم ذات النبض، ويمضون بذات الشغف. هذه المقالة ليست إشادة، بل نداء للتقدير، ولعلّ ما لم يُذكر بعد، أكثر مما ذُكر.
فهل نُنصت حقًّا؟