أقلام

سلسلة المعارف الجوادية (٤) : من زاوية أخرى

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الجواد (ع): أهْلُ اَلْمَعْرُوفِ إِلَى اِصْطِنَاعِهِ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ اَلْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَجْرَهُ وَفَخْرَهُ وَذِكْرَهُ، فَمَهْمَا اِصْطَنَعَ اَلرَّجُلُ مِنْ مَعْرُوفٍ فَإِنَّمَا يَبْدَأُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَطْلُبَنَّ شُكْرَ مَا صَنَعَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ)(كشف الغمة ج ٣ ص ١٣٧ ).

بعض المفاهيم وإن كانت واضحة في معانيها ومضامينها إلا أننا بحاجة إلى إعادة صياغتها وفق تشكيلة ومنظومة تظهر منها خيوط الأبعاد والاتجاهات والوجه الحقيقي للعوامل المؤثرة، كما أن مسألة التأثير ونسبته والنتائج المترتبة قد يكون لها تصور يجانب الحقيقة ولكن بعد صياغة المعاني نعيد الأولويات والترتيبات، ومن تلك المحاور المهمة التي تحتاج إلى تدقيق هو مفهوم صنع المعروف وما يحمله من آثار على المستوى الفردي أو المجتمعي، فنقطة الاستفادة من فعله نتوقّع بأننا لسنا بحاجة لإعادة النظر فيها، فمن يُصنع ويقدم له المعروف والمساعدة هو الطرف البارز في ذلك، بما يصل إليه من خير مادي أو معنوي يرفع عن كاهله الهموم والآلام بسبب الصعوبات والظروف الحياتية الضاغطة، وكذلك من المسبّقات في تصوراتنا عن أصحاب المعروف وأهله ومن يُنسب إليهم الفضل والفعل الحسن في ذلك فهم المساهمون في فعله على أرض الواقع من هذه الجهة فقط، بما تجود به أنفسهم الطيبة وأياديهم المعطاءة من خيرات تصل إلى المحتاجين، ولكننا نقف أمام هذه التحفة الجوادية لتعيد لنا صياغة المعاني وتقلب الصورة، فمن هم أهل المعروف الذين ينسب لهم الفعل الطيب والمساهمون في إبراز مكانته وقيمته ؟!

الإمام الجواد (ع) يجلي حقيقة صانع المعروف وأهله من زاوية غير منظورة، فالمستفيد من المعروف ليس من هو بحاجة للمساعدة ومن تُمدّ إليه يد العطاء، بل المستفيد الحقيقي هو صاحب المعروف ولكن بمعطيات جديدة يشير إليها وهذا ما يقلب الموازيين والانصبابات الفكرية بنحو جذري، فنحن أمام منطق إيماني يبرز مفهوم صنع المعروف والحاجة إليه بدلالة تركز على عامل الحاجة والنفع الذاتي (فخره)، وهذا الانقلاب في مشهدية مفهوم المعروف ينشأ من البحث عن الدافع والمحرك الذي يبعث نحو هذا الفعل، فالبعد الإنساني يرى في المعروف عاملًا يصنع الشخصية المكرمة التي تقوم أبعادها على الألق في الوجود والأثر، وباب المعروف وتقديم المساعدة للآخرين وتلمّس حاجاتهم والمشاركة الوجدانية مع ما يؤرّقهم له مناشيء ذاتية في الإنسان الباحث عن الإنجاز والشعور بالراحة وتحصيل السعادة، فالمعروف جذور تمتد في أرض المساندة ومد يد العون لتنبت شجرته وتورّق وتثمر نشر الاحترام والتراحم والمحبة، كما أن الجانب الثاني لدافعية المعروف هو الربط بين عالم الدنيا والآخرة وظهور نتائج وثمار هذا الفعل (المعروف) في ذلك العالم الأخروي (أجره)، فمن شد الهمة في ميادين الطاعة والقرب من الله تعالى وطلب مغفرته وعفوه، فإن صنع المعروف من أقصر الطرق وأنفعها في موازين العمل.

والجانب الثالث هو الأثر الدنيوي للتنافس في ميدان المعروف وعمل الخير في صنع المكانة الحقيقية في قلوب الآخرين وما يورث احترامهم ومحبتهم (ذكره).

هذه الزاوية الخفية على العقول يبرزها الإمام (ع) وينقل مفهوم الفضل والخير من ضفة الاستفادة إلى الذاتية والأثر، فصنع المعروف يحقق لفاعله الذكر الاجتماعي الطيب والجائزة الكبرى في يوم القيامة والسير الأخلاقي وفق منظومة التكامل، ولهذا فإن الأثر لهذا الفعل و هو شكر المعروف والإحسان الحقيقي له لا يُطلب ممن يقدّم له المعروف، بل التقدير داخلي وذاتي يتوجه إلى الفاعل بما يناله من آثار دنيوية وأخروية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى