الإمام الباقر (ع) رائد العلم والمعرفة

زاهر العبد الله
الإمام محمد الباقر (عليه السلام) هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت (ع) الذين تركوا إرثًا علميًا وعمليًا عظيمًا في التاريخ الإسلامي. لم يكن مجرَّد عالمٍ في زمانه، بل كان مؤسسًا لمنهج علمي متكامل، اعتمد عليه الأئمة من بعده. لُقِّب بـ “باقر العلم” لأنه شقَّ علوم الأنبياء والأوصياء وبثَّها بين الناس، فكان بحقٍّ رائد العلماء ومحي تعاليم الإسلام في عصره. ويُعد الإمام الباقر (ع) رائدًا للعلماء لما قدَّمه من إسهامات كبيرة في نشر العلوم الإسلامية، وتأسيس المنهج العلمي الأصيل، حيث أسس قواعد الجامعة الإسلامية انطلاقًا من قبر جده المصطفى صلى الله عليه وآله لتصحيح مسار أحكام الشريعة ومواجهة الانحرافات الفكرية والعقائدية، وتمهيدًا لتوسعها الكبير على يد ابنه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فكانت له عدة أدوار رائدة في هذا المجال نذكر منها:
دور الإمام الباقر (ع) في ازدهار العلوم
1. نشر علوم أهل البيت (ع):
بتعليم الناس علوم القرآن الكريم، ونشر الأحاديث النبوية، وتعليم الفقه الصحيح الذي حاول طمسه من كان قبله، وصحح العقائد الحقة وأنكر العقائد الباطلة، وعقد مجالس التفسير والتأويل الصحيح لعلوم القرآن الكريم، مستندًا إلى المعرفة العميقة التي ورثها عن جده الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فأسس مدرسة علمية رصينة ملهمة من آبائه عليهم السلام في المدينة المنورة، فتخرَّج منها العديد من الفقهاء والعلماء الذين نقلوا علومه إلى الأجيال اللاحقة.
2. رد الشبهات والانحرافات عن الدين:
في عصره عليه السلام، انتشرت الأفكار المنحرفة كالمجبرة والمفوضة والزنادقة والملاحدة وبعض الفرق الضالة، فقام (عليه السلام) بالرد عليها بالحجة والبرهان، مثبتًا أصالة مذهب أهل البيت (ع). وناقش وناظر بالمنطق والعلم والحلم والأدب، مما أكسبه احترامًا بالغًا حتى من خصومه.
نذكر مثال على ذلك مناظرته مع ابن الأزرق
عبد الله بن نافع الأزرق كان يقول للناس: لو أنّي علمت أنّ بين قطريها أحدًا تبلغني إليه المطايا، يخصمني أنّ عليًا قتل أهل النهروان وهو غير ظالم لهم، لرحلت إليه. فقيل له: ولا في ولده؟ فقال ابن نافع: أفي ولده عالم؟ فقيل له: هذا أوّل جهلك، وهل يَخلُونَ من عالم؟!قال ابن نافع: فمن عالمهم اليوم؟ قيل له: محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ (عليهم السلام) فشدّ الرحال للمدينة، فلما وصلها طلب الإذن في الدخول على أبي جعفر (عليه السلام) فقيل للإمام (عليه السلام): هذا عبد الله بن نافع الأزرق.
فقال الإمام (عليه السلام): وما يصنع بي وهو يبرأ منّي ومن أبي طرفي النهار.
فقال أحد مجالسي الإمام وهو أبو بصير الكوفي: جُعلت فداك إنَّ هذا يزعم أنّه لو علم أنّ بين قطريها أحدًا تبلغه المطايا إليه يخصمه أنّ عليًّا (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه.
فقال الإمام للكوفي: أتراه جاءني مناظرًا؟ قال الكوفي: نعم.
قال الإمام (عليه السلام): يا غلام اخرج فحطّ رحل عبد الله بن نافع الأزرق وقل له: إذا كان الغد فأتنا.
فلمّا أصبح الصباح كان ابن نافع بين أصحاب الإمام(عليه السلام)، فبعث أبو جعفر(عليه السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثمَّ خرج إلى الناس في ثوبين ممغّرين، وأقبل على الناس كأنّه فلقة قمر، فقال: الحمد لله محيّث الحيث، ومكيّف الكيف، ومؤيّن الأين، الحمد لله الّذي ﴿لا تَأخذه سنّة وَلا نَوم لَه مَا في السموات وَمَا في الأرض..﴾البقرة:255، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، الحمد لله الّذي أكرمنا بنبوّته، واختصّنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فليقم وليتحدَّث ؟، فقام الناس فسردوا تلك المناقب، حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر «لأعطينَّ الرَّاية غدًا رجلًا يحبُّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه»[1]
فتوجه الإمام نحو ابن نافع قائلًا: ما تقول في هذا الحديث؟ فقال ابن نافع: هو حقٌّ لا شكّ فيه، وأنا أعلم لهذه المناقب من هؤلاء، وإنّما أحدث عليٌّ الكفر بعد تحكيمه الحكمين.
فقال الإمام: أحبَّ الله عليّا يوم أحبّه وهو يعلم أنّه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟
قال ابن نافع: إن قلت: لا، كفرت، نعم قد علم.
قال الإمام: فأحبّه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟
فقال ابن نافع: على أن يعمل بطاعته.
فقال له الإمام أبو جعفر (عليه السلام): فقم مخصومًا.
فقام عبد الله بن نافع الأزرق وهو يقول: ﴿حتّى يتبيّن لَكُم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ البقرة:187، (والله أعلم حيث يجعل رسالته) [2].
3. إعداد تلامذة متميزين:
خرَّج الإمام الباقر (ع) عددًا كبيرًا من العلماء، أشهرهم ابنه الإمام جعفر الصادق (ع)، الذي واصل مسيرته العلمية وأسس جامعة إسلامية كبرى. ومن تلامذته أيضًا: أبو بصير، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وجابر بن يزيد الجعفي الفضيل بن يسار الذين أصبحوا من أبرز رواة الحديث والفقهاء. فعلمهم من علومه نذكر هنا شاهداً في الحج
يروي الفضيل بن يسار بقوله: نظر [أبو جعفر (عليه السلام)] إلى الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم. ثم قرأ هذه الآية:(فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم [٣].
4. إثراء المكتبة الإسلامية بعلمه الوافر والغزير
فقد رُويت عنه (عليه السلام) آلاف الأحاديث في مختلف العلوم كالقرآن الكريم والفقه والحديث والكلام والفلك والطب وغيرها من العلوم، مما شكَّل أساساً متيناً وقوياً للفقه الجعفري وترسيخ العقائد الشيعية. كما ترك إرثًا وافراً في علم تأويل القرآن الكريم، والأخلاق النبوية، وأنواع العبادات، مما جعله مرجعًا للعلماء عبر العصور.
نذكر هنا شاهدًا على ذلك الإمام الباقر (عليه السلام) – لما سأله الفضيل بن يسار عن قوله تعالى: (الذين هم على صلواتهم يحافظون) هي الفريضة، قلت: (الذين هم على صلاتهم دائمون) قال: هي النافلة.[٤]
كلمات مضيئة من نور كلمات مولانا الإمام الباقر (ع)
في الحث على العلم:
يقول عليه السلام عن أبيه عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: العلم خزائن، ومفاتيحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمتكلِّم، والمستمع، والمحب لهم.[٥] ونفس الرواية ينقلها الإمام الرضا عليه السلام.
في الحث على مكارم الأخلاق:
عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه الباقر عليه السلام أنه قال: إنَّ أحبَّكم إلى الله أحسنُكم خُلُقاً، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، وتوطأ رحالهم.[٦]
في الحث على تقوى الله سبحانه:
يقول مولانا الباقر عليه السلام: قال: عليك بتقوى الله والاجتهاد في دينك واعلم أنه لا يغني عنك اجتهاد ليس معه ورع.[٧]
الخاتمة
الإمام الباقر (ع) لم يكن مجرَّد عالمٍ في زمانه بل كان رمزًا للعلم والتقوى والورع والزهد ومكارم الأخلاق، وكان مؤسسًا لمنهج علمي متكامل في العلم والمعرفة في الدين والدنيا، اعتمد عليه أّهل البيت عليهم السلام من بعده. لُقِّب بـ “باقر العلم” لأنه شقَّ علوم الأنبياء والأوصياء وبثَّها بين الناس، فكان بحقٍّ رائد العلم والعلماء ومحيي معالم الإسلام في عصره.
المصادر :
[١] مجمع الزوائد للهيثمي: 6/150، المعجم الكبير للطبراني: 18/237.
[٢] الروضة من الكافي للكليني ج 8 ص 349.
[٣] الحج والعمرة في الكتاب والسنة – محمد الريشهري – الصفحة ٢٥٦.
[٤] ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٢ – الصفحة ١٦٤٣.
[٥] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ١ – الصفحة ١٩٧.
[٦] الكافي – الشيخ الكليني – ج ٢ – الصفحة ١٠٢.
[٧] بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٦٧ – الصفحة ٣٠٨.