أقلام

الإمام الباقر عليه السلام وسر الإمامة الخالدة

أحمد الطويل

استُشهد الإمام الباقر عليه السلام في السابع من شهر ذي الحجة، سنة 114 للهجرة.

مقدمة: 

حين يتكلم الوعي قبل أن يعلو الصوت.

لم تكن حياة الإمام الباقر عليه السلام فصلًا عاديًا في كتاب الزمن، بل كانت شقًا للغيم، وشقًا للغفلة، وشقًا للجمود، وشقًا للحيرة.

كان اسمه ذاته يحمل المفتاح: “الباقر”؛ الذي بقر العلم، شقّه، فتحه، أظهر كنوزه.

سمّى الناس بأسمائهم، فوضع كل باطل في زاويته، وكل حق في موضعه.

كان صوته هادئًا، لكن أثره كالرعد. وكان حضوره بسيطًا، ولكن فعله كسيف الإمام علي، حين ينزل على ظلام العقول.

الجذور التي لا تجهل السماء

هو محمد بن علي بن الحسين، الملتقي في نسبه بين الحسن والحسين.

أبوه: زين العابدين، وأمه: فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى. هذا النسب لم يكن شرفًا وراثيًا فحسب، بل تجسيدًا لوحدة الإمامة بعد الطف، وولادة جديدة لفكر آل محمد في زمن الصمت.

كان يحمل في دمه كربلاء، وفي روحه المدينة، وفي قلبه القرآن.

وُلد سنة 57 للهجرة.

رأى كربلاء وهو طفل، وسمع صراخ زينب، وشهد قافلة السبايا تمضي نحو الشام، بكل ما فيها من أوجاع وكرامة.

فقرّر أن يجعل من العلم ثورة، ومن الصبر سلاحًا.

العلم سيف الباقر ودرعه

لم يحمل الإمام سيفًا، لكنه حمل ما هو أعظم: العلم، والمعرفة، والحجّة.

في عصرٍ كثرت فيه المذاهب، وتشعّبت فيه العقول، وتهاوت فيه الثوابت؛ وقف بثقة النبوة، ليقول: “هذا هو الحق”.

أسّس أول جامعة فكرية في الإسلام. جلس عند قدميه من صاروا أعمدة الفكر الشيعي: محمد بن مسلم، زرارة، جابر الجعفي.

لم يكونوا طلابًا فقط، بل كانوا جنودًا في جيش العقل، رواةَ نورٍ، ناقلين لحقيقة لا تزول.

الهدوء الذي زلزل عروش الظلم

عاصر الإمام الباقر عددًا من الخلفاء، بدءًا بعبد الملك، ثم الوليد، وانتهاءً بهشام بن عبد الملك.

هذا الأخير، خافه رغم هدوئه، وحقد عليه رغم حلمه، فدسّ إليه السمّ.

فارتقى الإمام كما يرتقي الأنبياء: بلا ضوضاء، ولا ضجيج.

لكن حضوره بقي أقوى من الموت.

كان رحيله ولادة جديدة لعصر الإمام الصادق، وفتحًا لبصيرة الشيعة.

علّمهم: كيف يقفون، كيف يفكرون، كيف يختارون.

كان الباقر قرآنًا ناطقًا

ما من آية، إلا وكان لها تأويل عنده.

وما من مسألة، إلا وله فيها رأي يردها إلى الحق.

وقف في وجه الانحراف بكل هدوء، لكنه كان كالماء حين يحفر في الصخر.

لا يُرى أثره في البداية، لكن النتيجة لا تخطئ.

ما من خط تشيّع وُضع، إلا وكان له فيه أثر.

من أصول الدين إلى فروعه، من السلوك إلى العقيدة، كلّه امتزج بنوره.

ولهذا، بقيت كلماته تُقرأ لا كأحاديث عابرة، بل كوصايا خالدة.

الباقر مدرسة لا تغلق أبوابها

من أراد أن يعرف آل محمد في عصورهم الصعبة، فلينظر إلى الباقر.

كيف قاوم الخداع بلا شعارات، وثبّت الخط بلا دماء.

كيف أعاد للأمة بوصلة الفهم. لم يكن يصرخ، لكنه علّمنا كيف نصرخ إذا جاء الباطل. لم يكن يقاتل، لكنه علّمنا كيف نقاتل بالوعي.

فصار الباقر ميزانًا، وصار عمره الموجز كتابًا لا يُطوى.

الخلاصة:

الإمام الباقر عليه السلام، لم يكن إمام مرحلة، بل إمام مشروع.

جسرٌ بين كربلاء ومشروع الإمام الصادق.

بذرةٌ في تربة كربلاء أثمرت ثورة معرفية.

بعلمه ثبتت هوية التشيّع، وبنوره تكاملت العقيدة.

اجتمع فيه الهدوء والثورة، الصمت والصراخ، الحكمة والموقف.

والأهم: أنه علّمنا ألا نسير خلف المظاهر، بل خلف النور.

وأن الإمامة عقلٌ قبل أن تكون تاجًا، وسرٌ قبل أن تكون لقبًا، وحقٌ لا يرهبه سلطان.

اللهم، بحق محمد بن علي الباقر، يا من جعلته بابًا من أبواب العلم، ونورًا في زمن الظلمات، اجعلنا من الذين ينهلون من مدرسته، ويثبتون على صراطه، ولا يستبدلون علمه برأي البشر. اللهم، بحق نوره، ارفع الجهل عن قلوبنا، واكشف زيف الظلم من حولنا، واجعلنا من الدعاة إلى خطه، والمضحين في سبيل ولايته. اللهم، لا تحرمنا من شفاعته، وارزقنا زيارته في البقيع، واحشرنا في زمرته، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى