سِكّين العيد

عماد آل عبيدان
حدثني أحد الإخوة في مجلسٍ ضاحكٍ بوجهٍ جاد في زمن مضى، قال: “تدري ويش صار مع ولد عمّي في العيد؟”
قلت له: “ويش صار؟”، وأكمل بلهجةٍ تشي بأنّ الحكاية ليست عابرة، بل من تلك القصص التي تترك في قلبك سؤالًا لا يغادر.
قال: “ولد عمّي اشترى خروف ما شاء الله تبارك الرحمن، تقول دبّ أبيض. من يوم دخل الحضيرة وهو منقهر إن الجيران عندهم خرفان تمشي على خجل، وهو ماخذ له بطل، يعني لا تقول زينة للعيد ولا تقول فداء عن الذنوب، تقول مدرّع. وأهم شي عنده يخلّي عياله يشوفون كيف الرجّال يذبح.”
وهو يضحك ويكمل: “الزبدة يا طويل العمر إن بنته الصغيرة، اللي توها يا الله تفهم شي من الدنيا، وقفت قدامه، شافت الخروف، وشافت السكين اللي كان يسنها كأنّه يجهز لمعركة بدر، وقالت له بصوت بريء ووجه منبّه:
بابا… ليش نذبح؟ عشان نفرح؟”
يقول: “جمدت يده، وهو اللي دايم يقول هذي سُنّة، ويعرف القصّة من أولها لآخرها، لكن البنت حطّت أصبعها الصغير على جرح ما انتبهنا له من سنين.”
ويتابع: “أنا اقول لك يا صاحبي، ولد عمّي وقف، وعيونه على السكين، والبنت واقفة جنبه، وتحط يدها على قرن الخروف، تقول كأنها تقول له: لا تخاف ما راح أخليك تروح، وأنا واقفة هنا.”
ومن هنا، ولأول مرة، وقف أبوها اللي تعوّد على الذبح كل عيد وقال: “والله يا بنتي مادري! يمكن لأننا نظن إننا نفرح، بس ما ندري ليش نفرح فيه.”
فكر كثيرًا، ثم ذبح، ولكن يقول لي: “والله ما فرحت.”
هنا تغيّرت القصّة، ما صارت قصة خروف، صارت قصة إدراك.
عيد الأضحى، في ذهن كثير من الناس، محصور بين لحمةٍ تُطبخ وملابس تُلبس. ولكن هذا العيد، كما قال الإمام الصادق عليه السلام، “هو أعظم الأعياد، وهو يوم قُبلت فيه أعمال الحُجّاج، ويُغفر فيه للناس عامة، فإذا كان كذلك، فأين أنت عنه؟”
يعني مو بس عيد الحُجّاج بل عيد كل مؤمن يمدّ يده للغفران، ويقطع أوتار التعلّق بغير الله.
وأما القرآن، فما روى قصة الذبح ليخلّد دمًا على الأرض، بل روى تسليمًا يرفع الروح. “فلما أسلما وتله للجبين” هذه لحظة تتعدى فهم الطاعة، إنها نقطة الانفصال بين القلب والدنيا.
ولد عم صاحبي، يوم رجع للبيت بعد الذبح، لم يكن نفس الرجل.
جلس مع عياله، وبدل ما يفرّق اللحم، فرّق عليهم سؤالًا جديدًا، قال:
“تدرون ليش نذبح؟”
وجاوب الصغير: “علشان ناكل كبسة!”
وضحكوا، لكن الكبير منهم قال: “بس يا يبه، إسماعيل عليه السلام رضى يموت، احنا حتى لو أحد أخذ الريموت نزعل!”
ضحك ولد عمّه، وقال: “عاد هذا هو اللي كنت أبغا أوصله… العيد ما هو بس أكل ولبس، العيد إنك تضحّي بشي تحبه علشان شي أعظم.”
تخيل… أي أثر تركته بنت ما كملت سبع سنين؟
في يوم اعتدنا فيه أن نضحك حين يُنحر، ونغني فوق الدماء.
هل سألنا يومًا أبناءنا ويش يعني العيد فعلًا؟ هل حوّلنا هذه المناسبة لفرصة تربية روحية؟ أم فقط لباس جديد وصور تُرفع على الجدران الافتراضية؟
العيد هو لما تجلس عيلتك كلها على سفرة واحدة، مو عشان تاكل، عشان تحس إن كل قطرة دم راحت، رجّعتلك شي أعمق: لمّة، رحمة، تآلف.
هو يوم تعلّم فيه بنتك معنى الرحمة، وتعلّم ولدك كيف يكون كريمًا مو بلحمه، بل بحلمه.
يقول ولد عمّ الأخ: “من بعدها، كل عيد، قبل ما أذبح، أجلس مع عيالي وأسألهم، ويش مستعد تضحّي فيه علشان الله؟
الصغير يقول: أستغفر الله بدل ما أقول كلمة مو زينة، والكبيرة تقول: أساعد أمي حتى لو مالي خلق.
وأنا؟ أقول: أضحي بعصبيتي، وأحاول أبتسم أكثر.”
والله يا صاحبي، العيد مو بس فداء، هو اختبار ننجح فيه أو نكرر دروسه كل سنة.
والسكين؟ ما عاد أشوفها سلاحًا، صارت مرآة.
تقول لي: ويش الشي اللي بتقطعه من قلبك هذي السنة؟
في النهاية، السكّين تبقى بيدك
لكن ما يُذبح أولًا، هو شيء في داخلك، لا في الحضيرة.
ويمكن، بس يمكن نضحّي علشان نفرح، لكن نفرح لأننا قرّبنا، مو لأننا أكلنا.
وكل عيد وأنتم أضحى
وكل عيد وأنتم تُضحّون لا تُذبحون فقط.
(لأن الحكاية ليست عن خروف… بل عن بنت فهمت قبل أبوها.)