أقلام

اللدونة العصبية: كيف يتشكّل دماغك نتيجة أفكارك وسلوكك

غسان بو خميسين

في الماضي، كان يُنظر إلى دماغ الإنسان على أنه جهاز بيولوجي مغلق، يتشكل في الطفولة ويبقى على حاله حتى الموت. كانت الصدمات تُعد أبدية، والعادات عصية على التغيير، والتجارب القاسية كأنها نقوش في الحجر. ولكن مع تقدم الأبحاث العصبية، تغيّرت هذه النظرة بشكل جذري، بفضل ما يُعرف اليوم بـ “نظرية اللدونة العصبية” (Neuroplasticity) — إحدى أكثر الاكتشافات العلمية تأثيرًا في فهمنا للعقل والسلوك والتعلّم والشفاء النفسي. ما اللدونة العصبية؟ هي قدرة الدماغ على إعادة تشكيل نفسه — أي تغيير بنيته المادية ووظائفه — استجابةً للتجارب الحياتية، والتعلّم، والعادات، وحتى الأفكار المتكررة. تنشط هذه القدرة العصبية في مراحل الطفولة، ولكنها تستمر معنا طيلة الحياة. بمعنى آخر، يمكن لدماغك أن “يتعلم” ليس فقط معلومات جديدة، بل أن “يُعيد توصيل” نفسه بيولوجيًا تبعًا لطريقة تفكيرك، وسلوكك، وما تركز عليه في يومك. من الفرضية إلى الحقيقة: كيف وُلدت نظرية اللدونة العصبية؟ لم تكن فكرة أن الدماغ يتغيّر مع التجربة محل قبول في بدايات القرن العشرين؛ بل وُوجهت بالرفض القاطع. ولكن العالم الإسباني سانتياغو رامون إي كاخال، الحائز على نوبل عام 1906، كان أول من تمرد على هذه الفكرة، مؤكدًا أن “الإنسان يستطيع أن ينحت دماغه كما يشاء”. بعده بأربعة عقود، جاء الكندي دونالد هيب، ليقدّم عام 1949 قاعدة عصبية ثورية: “الخلايا التي تطلق معًا، تتصل معًا”. هذه الجملة البسيطة أصبحت حجر الأساس لفهم التعلم والذاكرة. أما التحول الحقيقي فجاء مع الأمريكي مايكل ميرزينيتش، الذي أثبت بالتجربة أن الدماغ يعيد تنظيم نفسه بعد الصدمات والتدريب، مؤكدًا أن اللدونة ليست مجرد فرضية، بل واقع بيولوجي ملموس. ومع تقدم أدوات التصوير الدماغي، صار بإمكاننا أن نرى كيف تتغير الخرائط العصبية بفعل الأفكار، التأمل، والتجارب اليومية.

الأدلة العلمية: الدماغ الذي يتغيّر في منتصف القرن العشرين، كان الاعتقاد السائد أن الدماغ ثابت بعد سن البلوغ. غير أن دراسات بارزة غيرت هذه الرؤية: دراسة “تاكسا” على سائقي التاكسي في لندن (Maguire et al., 2000)، وُجد أن السائقين الذين قضوا سنوات في حفظ شوارع لندن لديهم زيادة في حجم الحُصين (hippocampus)، وهو الجزء المرتبط بالذاكرة المكانية. هذا يعني أن الدماغ يتغير تبعًا لنوع العمل العقلي الذي يُمارَس باستمرار. أبحاث “Sara Lazar” في جامعة هارفارد (2011) أظهرت أن التأمل لمدة 8 أسابيع يؤدي إلى زيادة في كثافة المادة الرمادية في مناطق مرتبطة بالتعاطف والانتباه، وانخفاض في حجم اللوزة الدماغية المسؤولة عن الخوف. دراسات إعادة التأهيل بعد الجلطات الدماغية، المرضى الذين يفقدون القدرة على الحركة أو الكلام، ويجري تدريبهم بإصرار، يستطيعون أحيانًا إعادة بناء المسارات العصبية التي تسمح لهم باستعادة وظائف مفقودة، مما يدل على مرونة الدماغ في التعويض.

هل أفكار الإنسان تؤثر على الدماغ فعلًا؟ نعم، بشكل علمي مثبت. الأفكار المتكررة تخلق ما يُعرف بـ “الحلقات العصبية” (Neural Loops). كلما كرّرت فكرة، قناعة، أو شعور، فإنك تقوّي المسارات العصبية المرتبطة بها. يقول عالم الأعصاب الشهير Donald Hebb: “الخلايا العصبية التي تطلق معًا، تتصل معًا.” هذا يعني أن التفكير المستمر في الخوف، أو القلق، أو الغضب، يُقوّي تلك الدوائر العصبية، مما يجعل هذه الحالات أكثر حضورًا وتكرارًا في حياتك. وعلى العكس، التفكير في الامتنان، التعاطف، والهدوء، يُنشّط شبكات عصبية مختلفة تُعزز الاستقرار النفسي.

السلوك يعيد تشكيل الدماغ ليس فقط التفكير، بل السلوك أيضًا يعيد توصيل الدماغ. على سبيل المثال: التعلّم المتكرر (كالكتابة أو العزف أو الحفظ) يقوّي المسارات العصبية المسؤولة عن المهارة. الرياضة تحفّز إنتاج عوامل النمو العصبي (مثل BDNF)، مما يعزز تكاثر الخلايا العصبية. التفاعل الإيجابي مع الآخرين ينشّط أنظمة المكافأة، ويقلل من نشاط مراكز التوتر. الدماغ يُحب التكرار. ما تفعله كل يوم يشكّلك حرفيًا.

هل يمكن عكس آثار الصدمات النفسية؟ نعم. الدماغ المصاب بالقلق، الاكتئاب، أو حتى الصدمة يمكن إعادة تأهيله من خلال: العلاج السلوكي المعرفي (CBT) التأمل الواعي (Mindfulness)، الكتابة العلاجية الرياضة الهوائية الممارسات الروحية (كالذكر أو الصلاة) هذه الأساليب لا تهدئ النفس فحسب، بل تُعيد تشكيل شبكات الدماغ تدريجيًا، وتُضعف المسارات المرتبطة بالألم. الكلمة الطيبة والسلوك الحسن… أدوات عصبية نعم، وهنا تكمن المفاجأة العلمية الجميلة: السلوك الحسن والكلام الطيب لهما تأثير عصبي مباشر ومثبت. دراسة Dacher Keltner (UC Berkeley) بيّنت أن الأفعال الطيبة تُحفّز إفراز الدوبامين والأوكسيتوسين، ما يعزز مشاعر الراحة والارتباط. أبحاث التأمل الرحمي (Compassion Meditation).كشفت دراسات التصوير بالرنين الوظيفي (fMRI) أن ممارسي الرحمة يُظهرون نشاطًا في القشرة الجبهية المرتبطة بالتعاطف، وانخفاضًا في اللوزة الدماغية المرتبطة بالخوف. أذكار الصباح أو الصلاة المنتظمة تُحدث نمطًا إيقاعيًا يُعيد توازن الجهاز العصبي الذاتي، ويقلل من التوتر المزمن. بكلمات أخرى، الطيبة ليست مجرد خلق حسن… إنها علاج بيولوجي.

أثر الكلمة الطيبة في هندسة الدماغ ليست الكلمة الطيبة مجرّد خُلق رفيع، بل فعلٌ بيولوجي يُعيد تشكيل الدماغ. فقد أظهرت دراسات مثل تلك التي أجراها Keltner (UC Berkeley) وSara Lazar (Harvard) أن ممارسة الرحمة، والتأمل في النية الطيبة، والنُطق بما يُسرّ القلوب، تُنشّط مناطق التعاطف في القشرة الجبهية، وتُهدئ استجابات اللوزة الدماغية المرتبطة بالخوف والعدوان. الكلمة الطيبة تُطلق الدوبامين، وتُغذي الروابط العصبية المرتبطة بالأمان، كما أن الذكر المتكرر – كأذكار الصباح أو الصلاة – يُحدث إيقاعًا عصبيًا منتظمًا يُسهم في تخفيف التوتر وإعادة توازن الشبكات الدماغية. إننا، باختيارنا للأفعال الطيبة، لا نُحسّن أخلاقنا فحسب، بل نبني أدمغة أكثر سكينة ورحمة. فاللدونة العصبية تنصت لما نكرره، وما نردده، وما نؤمن به. فليكن ما نكرره طيبًا، حتى تُصبح أدمغتنا شاهدة على الجمال الذي نزرعه في العالم.

خلاصة : أنت لست ضحية دماغك بل صانعه. نظرية اللدونة العصبية تُلغي فكرة “أنا هكذا ولا أستطيع التغيير”. الدماغ ليس نصًا نهائيًا، بل مسودة مفتوحة باستمرار. كل ما تفكر فيه، تقوله، تفعله يُسهم في صياغة هذه المسودة. قد تكون التجارب المؤلمة قد كتبت فصولًا من حياتك، ولكن بوعيٍ منك، وبنية صافية، وبالتكرار اليومي لفعل الخير، يمكنك أن تعيد كتابة ما تبقى من القصة. ولعل أجمل ما قاله العالم فيكتور فرانكل يصدُق أكثر من أي وقت مضى: “بين الفعل والاستجابة، توجد مساحة وفي تلك المساحة تكمن حريتنا.” فامنح دماغك ما يستحق: فكرًا طيبًا، وسلوكًا راقيًا، ومجالًا للتطور، لا للجمود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى