لعبة الفهد – الحلقة التاسعة: أروى الشيطانة

إبراهيم الرمضان
كان علي في عصر ذلك اليوم جالسًا في غرفته، يحاول مراجعة دروسه، ولكن ذهنه كان شاردًا. لم يكن يكاد ينهي صفحة حتى يتشتت تفكيره مجددًا، غارقًا في القلق على أخيه فهد، الذي غادر المنزل مع أبي موسى منذ أيام، بعدما انتشرت أخباره في مواقع التواصل الاجتماعي. كان القلق ينهش قلبه، يرافقه شعور خفي بتأنيب الضمير، خصوصًا بعد التنبيه الذي وصله بخصوص فهد من حارس المدرسة، العم أبي حميد.
في تلك اللحظة، سمع علي جرس الباب يرن. خرج من غرفته متوجهًا إلى الباب ليرى من الطارق. وعندما فتحه، وجد أمامه امرأة كبيرة لم يتعرف عليها للوهلة الأولى. تأملته قليلًا قبل أن تسأله:
– هل أنت علي؟ كم كبرت يا بُني، لم أرك منذ سنين.
عندها، عرّفت نفسها قائلة:
– أنا أم موسى… أتمنى أن تكونوا جميعًا بأفضل حال.
تذكرها علي أخيرًا:
– حياكِ الله يا خالة أم موسى، الحمد لله أنا ووالدي بأفضل حال، تفضلي بالدخول.
قالها علي وهو يفسح لها الطريق، بينما لا يزال عقله يحاول استيعاب سبب زيارتها المفاجئة.
أجابت أم موسى مباشرة:
– لا أريد أن أطيل عليكم، لدي أمانة أريد تسليمها فقط. هل والدك موجود في المنزل؟
رد علي:
– لا، إنه بالخارج الآن.
مدّت أم موسى يدها بحرص، وأعطته ظرفًا قائلة:
– عندما يعود، سلمه هذه الرسالة. إنها أمانة من المرحومة والدتك، رحمها الله. طلبت أن تصل إلى والدك بعد فترة من خروج فهد من السجن بالسلامة، وحصول بعض التطورات المعينة. وجدت أنه ربما يجب إيصال الرسالة الآن. أوصل لوالدك تحياتي.
عندما همّت أم موسى بالرحيل، واتجهت نحو السيارة التي يقودها ابنها موسى، استوقفها علي بصوت خافت جعلها تلتفت إليه.
سأل علي بتردد:
– حسنًا، أردت فقط السؤال عن فهد، كيف أحواله؟
نظرت أم موسى من حولها بحذر، ثم أشارت بيدها إليه ليقترب. وعندما فعل، قالت بصوت خافت:
– لا أعرف الكثير عن أخباره، فقد أصبحت تحركاته أكثر سرية. ولكن يمكنكم الاطمئنان عليه في أي وقت من خلال سؤال زوجي، أبو موسى… فهو أقرب إليه هذه الأيام.
ثم أضافت بنبرة أكثر توجسًا:
– وكونوا حذرين، عيون أبي مشاري تترصده، وكذلك مباحث فريق النقيب مدرك يريدون رصد تحركاته… ينبغي عليكم اليقظة.
بعد أن غادرت أم موسى بالسيارة، دخل علي إلى المنزل حاملًا الظرف معه. توجه إلى الصالة، جلس على الأريكة، ووضع الظرف على الطاولة أمامه. ظل جالسًا، يفكر، وعقله ينهش التفكير نهشًا لمعرفة محتوى هذه الرسالة. كان شوقه لوالدته يدفعه بقوة لمعرفة ما كتبته بخط يدها، ولكنه تردد للحظة، متذكرًا أن الرسالة موجّهة إلى والده، وتتعلق بفهد. ومع ذلك، استنتج أن محتواها ربما لا يكون سرّيًا إلى درجة تستدعي إخفاءه عنه، فاندفع لفتح الظرف وبدأ بقراءة الرسالة.
ظل يتأمل الكلمات مرة بعد أخرى، حتى اغرورقت عيناه بالدموع. كانت الرسالة أكثر مما توقّع، وكأن والدته لا تزال حاضرة بروحها في هذا البيت، ترسل كلماتها عبر الزمن. بعد دقائق، سمع صوت الباب يُفتح، ودخل والده، أبو فهد، ليجده جالسًا في مكانه، وبيده الرسالة، وعيناه لا تزالان متأثرتين.
توقف أبو فهد عند رؤيته بهذه الحالة وسأله بقلق:
– ما بك يا علي؟ ما هذه الرسالة؟
مسح علي دموعه سريعًا، وقال بنبرة اعتذار:
– آسف يا أبي، كان ينبغي أن أنتظرك قبل أن أفتحها… إنها رسالة من والدتي.
ارتسمت الدهشة على ملامح أبي فهد، وسأل مستغربًا:
– من والدتك؟ كيف وصلت إليك؟ ومِن مَن؟
أجاب علي:
– الخالة أم موسى كانت هنا، سلّمتني الرسالة، وأوصلت لك تحياتها.
تناول أبو فهد الظرف من يد ابنه، وجلس بجانبه على الأريكة، وبدأ يقرأ الرسالة بصمت، بينما كان علي يراقب تعابير وجهه المتغيرة وهو يغوص في الكلمات:
((زوجي العزيز…
بقراءتك لهذه الرسالة، سيكون قد مر وقت على خروج ابني فهد من السجن، وأرجو يا أبا فهد أنك الآن أصبحت ترى الأمور بوضوح أكبر. أعلم أنك لم تصدقه حين قالها مرارًا بأنه ضحية مؤامرة دنيئة، وها أنا أكررها لك مرة أخرى، لعل كلماتي تكون جرسًا يوقظك: فهد لم يُسجن لأنه لص، بل لأنه وقف في وجه سلطة وجبروت أبي مشاري، ذلك الطاغية الذي لا يعرف الرحمة، والذي دمر حياة الكثيرين لتحقيق مصالحه القذرة.
لا أنكر أن لفهد أساليبه الخاصة، التي قد تبدو لك غير سليمة تمامًا. نعم، السرقة لأجل أن يعيد ما سُرق قد لا تكون الأسلوب الأصح أو الأمثل، وكذلك مبدأ “إعادة توزيع الثروة”، وإن كان كثير من المستضعفين قد استحسنوه وأحبوه بسببه، رغم أن الأصل غير سليم. ولكنه لم يُسجن بسبب هذه الأفعال بحد ذاتها، بل لأنه كان نِدًّا لذلك البغيض، الذي دمر مستقبل الكثير من أعزائنا، وابتزّ العديد منهم، وقيد حول رقابهم السلاسل. رفض الخضوع للظلم والاستسلام للجبروت، هذا هو ذنبه! ومع ذلك، كنتم تصمون آذانكم عن صراخه، وترونه مجرد ابن عاق أو رجل ضائع.
أعلم، يا أبا فهد، أن أبا مشاري لن يهدأ له بال حتى يُخضع فهد. ولكنه، كما تعلم، نحن لا نخضع ولا نركع إلا لله. هذا ما فعله فهد بأفعاله، بينما أنتم – مع الأسف – كنتم تمارسون الركوع في صلواتكم لأنكم فقط اعتدتم عليه، دون أن تفهموا معناه الحقيقي، ودون أن تدركوا أن الركوع والسجود ليس مجرد حركة! بل موقف طاعة وخضوع لله. ولو كنتم تعقلون، لعرفتم أن من يركع لله وحده، لا يطأطئ رأسه أمام الطغاة.
ابني لم يخضع ولن يخضع، ولكنه يحتاجكم بجانبه. يحتاج أن تمدوا له يد العون، أن تكونوا السند الذي لم يكن له يومًا، لا تتركوه يواجه أبا مشاري وحده، فالطغاة كأبي مشاري يستمدون قوتهم من ضعف ضحاياهم وقلة ناصريهم.
أرجوك، يا أبا فهد، لا تدع ابني ينهار تحت هذا الضغط، اجمعوا شتات قلوبكم، كونوا عونًا له، وشدّوا على يده، فهد قد يحمل الشجاعة في قلبه، ولكنه يحتاج إلى الأسرة التي تحمي ظهره، نحن لا نركع للطغاة، ولن نبدأ بذلك الآن.
وأخيرًا، يا أبا فهد، إذا كنت لا تزال ترى فهدًا كشخص عنيد ومزعج، فاسمح لي أن أذكرك بشيء بسيط، كل هذه الصفات، للأسف، ورثها مني! لذا، في المرة القادمة التي تشعر فيها برغبة في لومه، حاول أولًا أن تلوم نفسك لأنك تزوجتني!
وبالمناسبة، إذا كنت تريد أن تحسن الوضع، فحاول أن تكون أبًا يُعوَّل عليه ولو لمرة واحدة، سيحتاجك أكثر مما تتخيل)).
بعد أن أنهى أبو فهد قراءة الرسالة، ظلّ صامتًا للحظات. لم يكن يعلم أن الكلمات ستخترق قلبه بهذا الشكل. نظر إلى ابنه، ثم إلى الرسالة مجددًا، شيء ما داخله بدأ يتغيّر، ولكنه لم يكن متأكدًا بعد مما يجب أن يفعله.
أبو فهد:
– حسنًا يا بُني، بما أنك قرأت الرسالة… هل هناك شيء تريد قوله؟
علي:
– استوقفني الجزء الأخير من رسالتها، حين قالت إن فهدًا ورث منها، وإنك لو أردت أن تلوم أحدًا، فعليك أن تلوم نفسك لأنك تزوجتها، هذا جعلني أفكر كثيرًا في ماضيكما معًا. لم تحدّثني يومًا عن قصة تعارفكما وزواجكما، وأعتقد أنها تشير إلى ذلك بطريقة غير مباشرة… هل يمكنك أن تخبرني يا أبي؟ هذا الموضوع يشغلني، خاصة أن البعض يستغل الأمر للتنمر عليّ وإثارة الشكوك حولنا.
ابتسم أبو فهد، وكأن الزمن عاد به إلى سنوات طويلة مضت، عندما كان الشاب الذي كان يحمل أحلامًا كبيرة حينها.
أبو فهد:
– سأخبرك يا بني، لا تقلق… ليس الأمر كما تسمع. صحيح أن فهدًا شابه أمه كثيرًا في صغرها، ولكنه لم يرث عنها كل شيء كما تظن. كانت أمك قوية وعنيدة، ولكنها كانت تعرف متى تتوقف… أما فهد، فقد حمل ذلك العناد إلى أقصى مدى.
ثم سكت للحظة، قبل أن يضيف بنبرة دافئة:
– أتعلم؟ عندما التقيت بأمك، لم يكن الأمر كما يحدث في القصص، لم يكن حبًّا من النظرة الأولى، بل كانت حكايتنا مختلفة تمامًا…
ينتقل الزمن بأبي فهد، أو (المهندس محمد) كما كان يُعرف آنذاك، ليأخذنا إلى مشهد يعود إلى سنوات طويلة مضت… كان شابًا في الخامسة والعشرين، قد تخرج من كلية الهندسة، ومضى عليه بعض الوقت وهو يعمل في إحدى شركات تنقيب وتكرير النفط. كان والده معروفًا بتجارة العطارة، وهي الحرفة التي ورثها عن آبائه وأجداده، قبل أن يتجه لاحقًا إلى تجارة المواد الغذائية بالجملة. إلى جانب ذلك، كان يملك محلًا في السوق مختص بالمطاحن والتحميص، وبيع منتجات القهوة، والبهارات، والأعشاب، والحبوب، والبقوليات، وغيرها من الأغذية.
كان منزل عائلته يُعد بناءً حديثًا مقارنةً ببقية بيوت القرية التي كانوا يقطنونها، حيث تم تشييده على مساحة جديدة محاذية للبيوت القديمة خلال فترة الثمانينات. ورغم أن مساحة الأرض كانت مشابهة نوعًا ما لبقية البيوت، وإن كانت أكبر قليلًا، فقد تم استغلالها بشكل أكثر كفاءة بما يتناسب مع المخططات المعمارية لذلك الزمن.
كان والده قد اشترى هذه الأرض بعد أن كبرت عائلته وضاق بهم المنزل القديم، فقرر الانتقال إلى منزل جديد بمساحة أوسع، يوفّر لهم راحة أكبر، ويؤمّن مسكنًا ملائمًا لابنه المهندس محمد عندما يقرر الزواج. تميّز المنزل بوجود تهوية محيطة به، بعرض لا يكاد يتجاوز 150سم، إضافةً إلى مساحة أوسع في واجهته، تم استغلالها لتكون حديقة صغيرة لزراعة بعض الورود والنباتات الأخرى.
تم بناء دور كامل في الطابق الأرضي، يعلوه شقة واسعة في الطابق الأول، يقع على شمالها بلكونة مطلّة على سوق القرية، بينما في الطابق الثاني، بُني ملحق صغير عبارة عن غرفة واحدة مع دورة مياه مطلّ على السطح، استغله (المهندس محمد) ليكون غرفة عملياته ودراساته. جهّزها بكل ما يحتاجه من أدوات هندسية وكراسات عمل، إضافةً إلى طاولة كبيرة تراكمت عليها ملازم ومنشورات وكتب متعلقة بتخصصه، مما جعلها أشبه بمكتبة هندسية مصغّرة.
وبجوار منزلهم الجديد، كان جارهم أبو بدر، الذي كان يعمل إداريًا في أحد المصارف. كان ابنه الأكبر الأستاذ بدر مقاربًا لعمر المهندس محمد، وبينهما صداقة نشأت منذ الصغر واستمرت حتى بعد التحاقهما بالعمل، حيث كان بدر يعمل في الشركة نفسها ولكن في قسم المحاسبة المالية.
أما في منزل أبي بدر ذاته، فكانت هناك شخصية أخرى لا يمكن تجاهلها: أروى، شقيقة بدر، فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، ولكنها لم تكن كأية فتاة أخرى في سنها. كان الجميع يعرفها باسم “أروى الشيطانة”! لقب لم يأتِ من فراغ، بل بسبب شخصيتها المشاكسة، أفكارها الجامحة، ومقالبها التي لا تنتهي، مما جعلها مصدر إزعاج الجميع في الحي!
كانت لا تفوّت فرصة لافتعال المقالب في كل منزل تزوره برفقة والدتها، وكانت لديها موهبة فريدة في اكتشاف أكثر الأشياء أهمية لأصحاب المنزل، سواء كان مفتاحًا، أو كتابًا مفضلًا، أو حتى نظارة طبية، ثم تجعل ذلك الشيء يختفي تمامًا. يظل أهل البيت يبحثون عنه مرارًا وتكرارًا دون جدوى، حتى تستمتع هي بما يكفي، ثم تعيده إلى مكانه الأصلي وكأن شيئًا لم يكن.
أعجبتها اللعبة، ووجدت متعة خاصة في رؤية الدهشة والحيرة على وجوه ضحاياها، فأصبحت تكرر المقلب في أكثر من بيت، متسببة في إحراج والدتها التي اضطرت أكثر من مرة لتقديم الاعتذار لأصحاب المنازل، خاصة بعد أن بدأ البعض يتوجس من زيارتها خوفًا من “اختفاء غامض” جديد! لذلك كان (المهندس محمد) حريصًا على إغلاق الباب المؤدي للملحق حتى لا تحاول هذه الكائنة المرعبة حتى الاقتراب من غرفته.
في ذلك الوقت، لم يكن يتخيل أن حياته ستأخذ مسارًا مختلفًا بسبب حدث غير متوقع.
في أحد الأيام، تسلم المهندس محمد مخططًا مهمًا من رئيسه في العمل لدراسته وإعداد تقرير تفصيلي عنه، كان المخطط يتعلق بمشروع إنشاء جزيرة صناعية مخصصة لتسهيل عمليات نقل النفط ومشتقاته، حيث ستعمل الجزيرة لتكون محطة وسيطة تستقبل السفن التي تجد صعوبة في الرسو مباشرة على اليابسة.
تضمّن المخطط تحديدًا دقيقًا لأبعاد الجزيرة، من حيث الطول والعرض والارتفاع، إضافة إلى المواصفات الهندسية المتعلقة بقدرة الجزيرة على تحمّل الأحمال البحرية والظروف البيئية الصعبة. كما تم تحديد الموقع المقترح لإنشائها بدقة عبر إحداثيات خطوط الطول والعرض، مع الأخذ في الاعتبار عوامل المد والجزر، والتيارات البحرية، وعمق المياه في المنطقة المحيطة، كان عليه مراجعة تصميم القواعد والأساسات المغمورة، ومسارات التحميل والتفريغ، وتقييم المخاطر المحتملة لضمان نجاح المشروع.
كان الموعد النهائي لتقديم الدراسة والتوصيات الهندسية صباح اليوم التالي، مما جعله يدرك أن أمامه ليلة طويلة من العمل المكثّف. وفي غرفة عملياته، مع ضغط العمل والتفكير المتواصل، بدأ يشعر بصداع خفيف، فقرر أن يصنع لنفسه كوبًا من القهوة ليستعيد تركيزه.
في زاوية غرفته، كان قد جهز دافورًٍا صغيرًا على طاولة صغيرة يستخدمه لتحضير الشاي والقهوة وربما وجبة خفيفة عند الحاجة. وعندما فتح علبة القهوة، اكتشف أنها فارغة تمامًا! لم يكن هناك خيار آخر سوى الخروج لشراء علبة جديدة.
أثناء خروجه، قرر أن يمرّ بأحد المطاعم القريبة لتناول وجبة عشاء خفيفة، للترويح عن نفسه قبل أن يعود للانشغال مجددًا بإنهاء دراسة المشروع. وعندما عاد إلى المنزل، لاحظ خروج بعض النساء من المنزل، فسأل أخته باستغراب:
– هل كان هناك زوار؟
أجابته أخته:
– نعم، كانت أم بدر هنا.
في تلك اللحظة، ارتعد قلبه، وسأل بسرعة:
– وأروى الشيطانة؟ هل كانت معها؟
ردت أخته ببساطة:
– نعم، كانت معها لبعض الوقت.
ما أن سمع الإجابة حتى تجمد لثوانٍ، ثم ركض بأقصى سرعة نحو الملحق! تملّكه شعور مرعب وهو يتذكر أنه نسي إغلاق الباب قبل خروجه! وعندما فتح الباب، أدرك أن أسوأ مخاوفه قد تحققت… المخطط الذي يعمل عليه قد اختفى!!!!
نزل المهندس محمد من غرفته بانفعال شديد، وهو يهتف بصوت غاضب:
– أريد رأس أروى الشيطانة فورًا! هذه المشاكسة ستضيع مستقبلي وتدفعني إلى الحضيض!!
حاولت والدته تهدئته، قائلة بصوت هادئ:
– اهدأ يا بني، أروى دائمًا تعيد ما تأخذه بعد أن تستمتع بردود الفعل. إنها مجرد مزحة، ستعيده قريبًا.
ولكن محمد لم يكن في حالة تسمح له بالصبر، فقطع كلامها بغضب:
– لا وقت لديّ لاختبار صبري أو غضبي! هذا المشروع يتطلب مني العمل طوال الليل، ويجب أن يعود المخطط فورًا!
استشعرت والدته جدية الموقف، فذهبت على عجالة إلى منزل أبي بدر وأخبرت والدة أروى بالأمر. لم تمضِ إلا دقائق معدودة حتى عاد أبو بدر، تبدو علامات الانفعال على وجهه، وفي يده اليمنى عقاله الذي بدا مستهلكًا بشدة! أما يده الأخرى فكانت تحمل المخطط المفقود.
سلمه إلى أم محمد وهو يقول بصوت مليء بالأسف:
– أنا آسف جدًا على ما حدث، لقد عاقبتها على فعلتها، وأؤكد لكم أنها لن تكرر هذا التصرف مجددًا.
تألمت أم محمد لموقف الفتاة، فعاتبت أبا بدر قائلة:
– لم يكن هناك داعٍ لكل هذا! إنها لا تزال طفلة، والموقف لا يستحق كل هذه القسوة.
عادت أم محمد إلى المنزل مسرعة، متجهة نحو الملحق حيث كان ابنها المهندس محمد ينتظر بقلق بالغ. طرقت الباب عليه وسلمته المخطط، فشكرها واعتذر عن انفعاله السابق، رغم أن التوتر ما يزال ظاهرًا على وجهه.
أغلق الباب بسرعة، وبدأ يقلب صفحات المخطط بلهفة، محاولًا التأكد من عدم فقدان أو تلف أي جزء منه. ولكنه صُعق مما رأته عيناه!
كل الصفحات كانت مغطاة بعلامة (X) كبيرة بالقلم السحري الأحمر العريض، وعلى الصفحة الأخيرة، كُتبت ملاحظة ساخرة بخط يد طفولي متهكم:
– كل الحمقى الذين عملوا على هذه الدراسة البائسة، لو كلفوا أنفسهم بالسباحة من نفس الإحداثيات في عمق البحر لخمس دقائق فقط، سيكون المشروع بالمجان!! إلا إذا كانوا يفكرون أن يكونوا لصوصًا بلباس هندسي.
استشاط غضبًا، رمى المخطط أرضًا، وبدأ يتمتم غاضبًا على تصرفات “الشيطانة الصغيرة”! حاول تهدئة نفسه بإعداد كوب القهوة الذي كان قد اشتراه قبل قليل. احتسى رشفتين أو ثلاث محاولًا تهدئة أعصابه، ولكن عقله لم يتوقف عن التفكير فيما كتبته أروى الشيطانة.
بدأ يعيد قراءة الجملة مجددًا، وشيء ما أثار فضوله! هل يمكن أن تكون تلك الملاحظة مجرد عبث طفولي؟ أم أنها تحمل معنى أعمق؟
أجرى بسرعة حسابًا ذهنيًا بسيطًا لمتوسط سرعة السباحة في البحر، وقارن المسافة المفترضة التي يمكن أن يقطعها سبّاح محترف مع الإحداثيات الطولية والعرضية المحددة للمشروع.
وفجأة… كانت الصدمة!
هناك جزيرة طبيعية صغيرة بالفعل بالمساحة المطلوبة نفسها! وجود هذه الجزيرة يعني أنه لا داعي أبدًا لإنشاء جزيرة صناعية، مما سيوفر على الشركة مبالغ طائلة!
ولكن لماذا إذن تمت الموافقة على إنشاء جزيرة صناعية من الأساس؟!
بدأت الشكوك تحوم في ذهنه، وأصبحت لديه شبهة فساد خطيرة. على الفور، رفع الهاتف واتصل بصاحبه بدر، مطالبًا إياه بالحضور فورًا إلى الملحق.
عندما وصل بدر، أخبره بما فعلته أروى، وبما اكتشفه نتيجة ملاحظتها. لم يكن بدر ليستغرب كثيرًا من هذا الاكتشاف، ولكنه أدرك خطورة الموضوع فورًا.
– محمد، الأمر خطير جدًا… رئيسك المباشر قد يكون متورطًا بالفعل. إذا صحّت شكوكك، فنحن أمام قضية فساد مالي من العيار الثقيل!
اتفقا على ضرورة التصرف بحذر، وقررا التوجه في الصباح الباكر إلى الإدارة العامة لعرض القضية بكامل تفاصيلها.
وفي اليوم التالي، كانت الفضيحة قد انفجرت!
تم إيقاف جميع المسؤولين المتورطين في القضية عن العمل، وفتح تحقيق رسمي بشأن التلاعب في المال العام. في المقابل، حصل المهندس محمد والأستاذ بدر على تكريم رسمي وشكرٍ كبير على نزاهتهما وحرصهما على المال العام، بل وتمت ترقيتهما إلى مناصب إشرافية عليا، ليصبحا المشرفين المباشرين على المشروع!
وفي نهاية المطاف…
جلس محمد وبدر يتأملان ما حدث، ثم التفتا لبعضهما في دهشة، قبل أن يضحك المهندس محمد قائلًا:
– صدقني، كان يجب أن تحصل أختك أروى على ترقية هي الأخرى!
لم يكن مازحًا تمامًا، فمن كانت تُلقّب بـ “الشيطانة”، أنقذت مشروعًا عملاقًا، وأسقطت شبكة فساد دون أن تدري!
وبعد التفكير، قرر المهندس محمد أن يشتري لها هدية بسيطة تكون عربون شكر، وأيضًا ترضية بسبب “العلقة الساخنة” التي حصلت عليها من أبيها.
التقى بصديقه بدر أمام باب المنزل، فأخبره الأخير بأن الطريق “مفتوح”، وأن والديه بانتظاره في المجلس.
لكن ما إن عبر العتبة، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان! شيء ثقيل ارتطم بكتفيه وأسقطه أرضًا!
– أهاااااا! أنت في قبضة “بات وومن”! لن يرى الناس (بدرًا) في السماء اليوم! فاتورة الجلد سيدفعها صديقك محمد لسنوات طويلة! أين هو؟ أين هو؟ أم أنه هرب ليختبئ خلف مسطرته الهندسية ويحسب زوايا هروبه؟!
صُعق بدر وهو يشاهد المشهد أمامه! أخته الصغيرة جالسة على ظهر المهندس محمد، تهزّه بعنف وكأنها فارسة انتصرت في معركة مجنونة!
اقترب بدر بخطوات غاضبة، ولكن أروى رفعت رأسها فجأة، والتقت عينها بعينه، متجمدة للحظة وكأنها استوعبت الكارثة!
بسرعة خاطفة، قامت من على ظهر المهندس محمد، ثم انحنت لتمسك برأسه، ورفعته قليلًا فقط لتتأكد من هويته، قبل أن تتركه يرتطم بالأرض مجددًا!
ثم، كالبرق، قفزت إلى داخل المنزل وهي تصرخ بصوت مرتجف:
– اللعنة! إنه المهندس!!
ظل المهندس محمد ممددًا على الأرض، مذهولًا مما حدث، فيما تناثرت الحلويات التي اشتراها لأجلها في كل مكان!
نظر بدر إلى محمد، ثم إلى الحلويات المتناثرة، ثم إلى الباب الذي اختفت خلفه أخته، ثم عاد لينظر إلى محمد.
المهندس محمد، وهو يحاول ضبط أنفاسه من الضحك:
– أتعلم؟ كان يجب علي أن أفكر مرتين قبل أن آتي إلى هنا!
رفع محمد جسمه وهو ينفض الغبار عن نفسه، ثم التفت إلى بدر الذي كان بوجه جامد:
– فات الأوان على كل حال، لا تخبر والديها بما حدث أرجوك، لا أريدها أن تتعرض لعلقة جديدة.
استجاب بدر لرغبة صديقه، وتم التبرير لوالديها بأن ما حدث مجرد تعثّر عادي، لا أكثر ولا أقل… حتى لا تتحول “بات وومن” إلى “جوكرة” وتنتقم بطريقة لا تخطر على بال أحد!
ولكن في تلك الليلة…
وبينما كانت أم محمد تستعد للنوم، طرق ابنها باب غرفتها بنظرة تحمل مزيجًا من التردد والإصرار. جلست والدته مستغربة، ثم قالت:
– ما بك يا محمد؟ لماذا تبدو وكأنك ستطلب مني شيئًا غريبًا؟
أخذ المهندس محمد نفسًا عميقًا، ثم قال بكل ثقة:
– أريد الزواج من الشيطانة!
حدقت به والدته لثوانٍ، وكأنها لم تسمع جيدًا.
ثم قالت بذهول:
– من؟!
ابتسم محمد بارتباك:
– كم شيطانة لدينا هنا؟ أقصد أروى… أريد خطبتها.
وضعت والدته يدها على رأسها:
– ماذا جرى لعقلك؟ ألا تخشى أن تتحول حياتك إلى جحيم؟
ابتسم محمد بثقة، وكأنه لم يسمع تحذيرها:
– بل على العكس، أحتاجها يا أمي! لا أريد منها إلا عقلها، صدقيني ستكون خير عونٍ لي.
نظرت إليه والدته مطولًا، وكأنها تحاول استيعاب الجملة، ثم أغمضت عينيها للحظة.
قبل أن تقول:
– كما تشاء، سأبحث مع والدك في الأمر… ولكن ربما يجب أن أبدأ بتحضير الإسعافات الأولية لهذا الزواج منذ الآن!
عاد الزمن إلى الحاضر، حيث كان أبو فهد جالسًا مع ابنه علي، الذي كان لا يزال يبتسم مندهشًا مما سمعه لأول مرة. قال علي وهو يهز رأسه:
– ولكن يا أبي، أليس غريبًا أن يكون هذا الزواج قد نجح؟ حتى في ذلك الحين، كانت الفجوة واضحة بينكما، سواء من ناحية العمر أو طريقة التفكير. كيف استمرت حياتكما رغم كل هذه الاختلافات؟
ابتسم أبو فهد بهدوء، مستعيدًا ذكرياته، ثم قال:
– ليس كل زواج يحتاج إلى تطابق تام في التفكير والاهتمامات، يا بني. الاختلافات بين الزوجين أمر طبيعي، بل هي سنة الحياة. نعم، اختلفنا كثيرًا، وواجهنا مشاكل جمّة، ولكن الأهم من ذلك كله… أننا كنا نحب بعضنا البعض، وكان هذا كافيًا.
ثم أردف بعد لحظة من الصمت:
– ما عرفته بعد كل هذه السنين، أن والدتك كانت تعاني من فرط الحركة وتشتت الانتباه، ولكن لم يكن في زمانها مراكز للعلاج السلوكي، ومع ذلك، تضاءلت أعراض هذه الحالة مع الزمن.
تمتم أبو فهد، وكأن كلماته خرجت من أعماق قلبه:
– رحمكِ الله يا أروى، مكانكِ لا يزال خاليًا.
نظر علي إلى والده متأملًا، ثم قال:
– بدأت الآن أتفهم أخي فهد رغم كل المشاكل التي تسبب بها. ربما لم يكن سيئًا بالشكل الذي كنت أتصوره.
هزّ أبو فهد رأسه موافقًا، ولكنه استدرك قائلًا:
– ومع ذلك، هناك بعض التصرفات التي لم أجد لها مبررًا… مثل تلك الليلة عندما أخرجني من المنزل في منتصف الليل لسرقة تافهة.
التفت علي إلى والده باهتمام:
– صحيح… لم أسألك من قبل يا أبي عما حدث بتلك الليلة… أي نوع من المحلات كان؟
حاول أبو فهد أن يتذكر، ثم قال:
– أعتقد أنه كان محلًا لصيانة الإلكترونيات.
رفع علي حاجبيه متذكرًا شيئًا، وقال:
– ربما يكون المحل نفسه! أذكر أنني في ذلك الوقت أحضرت لهم جهاز بلايستيشن لحاجته إلى تنظيف، ولكنه عاد بحالة أسوأ حتى توقف عن العمل تمامًا. رجعت إليهم وطالبت بالتعويض، ولكنهم ماطلوا بشدة، وادعوا أنهم غير مسؤولين عن أية أعطال. أخبرني فهد أنني يجب أن أُصَعِّد للمطالبة بحقي، ولكنني قللت من أهمية الأمر وقلت له إن الجهاز القديم ولم يكن يساوي أكثر من 500.
دهش أبو فهد عند سماع الرقم. لقد كان هو المبلغ “التافه” نفسه الذي حاول فهد سرقته تلك الليلة!
ابتسم أبو فهد، ثم قال:
– حسنًا… لم يكن فعله صحيحًا، ولكنه لم يكن دون سبب أيضًا. والآن، ألوم نفسي أكثر من أي وقت مضى. والدتك كانت محقة، كان يجب أن أحتويه، لا أن أكتفي بلومه.