أقلام

يا راحلين والقلب معكم: حين يحجّ العاشق ولو غاب الجسد

أحمد الطويل

مقدمة:

حين يحجّ القلب وحده.

هناك مواسم لا تُقاس بالتقويم، بل تُقاس بارتعاش القلوب.

وهناك رحلات، لا تحتاج إلى جواز سفر، بل إلى دمعة صادقة، وشوق لا يُحتمل.

الحج ليس فقط لحظة التقاء الجسد بالكعبة، بل لحظة انكشاف القلب لله.

وفي كل عام، تهاجر الأرواح إلى منى وعرفات، بينما تُترك أجساد بعض العشّاق خلف السُتر، يحبسهم القدر، لكن قلوبهم تطوف، وتُلبي، وتبكي، وتعرف.

هذه الكلمات ليست تأملًا فقط، بل هي شهقة غائب، وأنين محروم، ونصٌّ كتبته الدمعة قبل الحرف،

هي رسالتي، من غاب عن الحج هذا العام، إلى من وقف بقلبه وإن لم يخطُ خطوة.

لم أكن هناك ولكني كنت في قلب الرحلة

هذا العام لم أكن هناك.

لم أكن في منى، ولا طفتُ بالبيت، ولا ذرفتُ دموع التلبية مع الجموع.

لكن قلبي كان هناك.

هناك، حيث يهتزّ الوجود بنداء “لبيك”، وتغسل الأرواح خطاياها تحت سماء عرفات.

أنا الغائب بجسدي، الحاضر بروحي.

أنا المنكسر على أعتاب الشوق، كأنّي عبد الرحيم البرعي حين كتب: “يا راحلين إلى منىً بقيادي

هيّجتموا يوم الرحيل فؤادي”.

نعم، هيّجتم فؤادي، أنتم الذاهبون إلى منى، إلى عرفات، إلى البيت العتيق.

أما أنا، فبقيت هنا، أحجّ بعيني، وألبي بقلبي، وأبكي بدلًا من السعي.

عرفات القلب: لا مسافات في المحبة

كلما ظننتُ أني بعيد، تذكرتُ أن الله لا يُقاس بالمسافات.

تذكرتُ أن الإمام الحسين (عليه السلام) حين وقف يوم عرفة، لم يبدأ بالسؤال، بل بالحمد، بالحُب، بالانكسار: “إلهي، ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟”

ما أشدها على القلب، وما أصدقها حين يقولها من لم يُكتب له الحج، لكنه وجد الله في دمعة، في تنهيدة، في سجدةٍ وحيدة منتصف الليل.

أنا والبرعي غيابنا حضور

حين كتب البرعي قصيدته، لم يكن يستعرض شِعرًا، بل كان ينزف.

كان مثلي، ممن قعدتهم الظروف، فأطلقوا الحجيج من قلوبهم بدل الأقدام. “وحُرِمتمُ جفني المنام ببعدكم

يا ساكنين المنحنى والوادي”

نعم، منامنا ضاع، وقلوبنا لم تهدأ. كأننا نقف هناك دون أن نُرى، نسعى بالحب، ونطوف بالشوق، ونلبي بنداءٍ داخلي لا يسمعه إلا الله.

الشبلي والحج الحقيقي

ولأني لم أذهب، علّمني الإمام زين العابدين درسًا أعظم: أن السفر الحقيقي يبدأ من الداخل.

حين سأل الشبلي عن نواياه في كل ركن، كشف له أن الصور لا تكفي، إن لم يُصاحبها صدقٌ، وندم، وشوق.

وأنا اليوم، رغم بعدي، أقول: “من نال من عرفات نظرة ساعة، نال السرور ونال كل مرادِ”

فلعلّي أنالها، ولو من مكاني، لعلّي أكون من الواقفين بقلبٍ صادق، وروحٍ دامعة.

الحج الأكبر: حين تنكشف النفس أمام الله

دعاء الإمام الحسين (عليه السلام)، وشوق البرعي، وكلمات السجاد، كلّها تتآلف لتقول لي ولك ولكل غائب: إن لم تطف بالحجر، فلتطف بالاعتراف.

إن لم تلبِّ بصوتك، فلتلبِّ بنيّتك.

إن لم تقف بعرفات، فقف على عتبة التوبة.

فالوقوف الحقيقي، ليس بالبدن، بل في أن تتعفّر روحك بتراب التذلل والانكسار.

حجّ القلب لا يُرد

اللهم، إني لم أكن في منى، ولا نزلتُ بميقات، ولا ناديت بـ”لبيك” بين الجموع، لكن ها أنا، من مكاني، من كسري، من حرماني، أناديك: يا رب، إن فاتتنا القوافل، فلا تحرمنا القبول.

وإن بعدنا عن البيت، فلا تبعدنا عن الرحمة.

وإن قصّرنا، فأنت الكريم الغفور.

اجعل حجّنا في قلوبنا، وسعينا في دمعاتنا، ووقوفنا في صدقنا.

اللهم، ها نحن عبادك، جئناك بقلوبٍ عارية، لا تسترها إلا رحمتك.

الخلاصة:

هذه السطور ليست مجرد تأمل في فوات موسم الحج، بل هي رثاء القلب حين يُحرم الجسد، ومناجاة العارف حين يُبعده القدر.

من خلال دمج لوعة البرعي، وعمق دعاء الإمام الحسين في عرفة، ودروس الإمام زين العابدين في النيّة، يظهر لنا أن الحج ليس فقط شعيرة بدنية، بل رحلة روحية لا يحجبها بُعد المكان.

هو صوت كل من قال: “يا رب، إن لم أكن هناك، فخذني إليك هُنا.”

اللهم، إن لم نحجّ هذا العام، فلا تحرمنا عرفتك. وإن غابت خطانا، فلتكن أرواحنا بين يديك، واقفة خاشعة، تهمس بنداءٍ لا يُسمع، لكنه لا يُرد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى