أقلام

رواية القصص بين قوة الإقناع وغواية العاطفة

غسان بو خمسين

في زمننا الحالي، زمن تدفق المعلومات وضجيج الشاشات، يبقى لأسلوب رواية القصص (Storytelling) وهجه الخالد في تحدٍّ مستمر لتغيرات الزمن. تكمن روعة رواية القصص في أنها أداة فطرية لفهم الحياة، ووسيلة راسخة للتأثير، وأحيانًا سلطة خفية تتسلل إلى العقل دون استئذان. فمنذ خَلق الإنسان، لم يتعلم عبر المواعظ الجافة أو الأرقام الصمّاء، بل عبر الحكايات. فالقصة هي التي علمتنا الخير والشر، والبطولة والندم، وهي التي ربطت المعنى بالعاطفة، والحقيقة بالخيال. القصة: قديمة قدم الإنسان لو عدنا إلى لحظة البدء، حين كان الإنسان يرسم على جدران الكهوف صورًا لصيدٍ أو حريق أو مطاردة، نجد أن أول أشكال التعبير لم تكن أوامر أو جداول أو قواعد، بل قصص. القصة سابقة للكتابة، بل للغة ذاتها. وقد تطوّرت حتى أصبحت جوهرًا في الثقافة الإنسانية، ومركبًا لتمرير القيم، وتفسير الكون، وفهم الآخر. وفي ذلك يقول الكاتب البريطاني فيليب بولمان: “بعد الطعام والمأوى، القصص هي ما نحتاجه أكثر، لأنها تجعلنا نفهم من نكون.” مجالات وتطبيقات رواية القصص: من المنابر إلى الإعلانات في الخطابة: كل خطيب عظيم هو راوي قصص بارع. فمن خطب الرسول ﷺ الذي أوتي جوامع الكلم ومن بعده سيد البلغاء وإمام المتكلمين الإمام علي عليه السلام، إلى كلمات الخطباء المؤثرين عبر التاريخ، نجد أن القصة حاضرة، لأنها تمثل اختصارًا مكثفًا للمعنى، وتُجسّد المجرد في وقائع حية. القصة تشعل انتباه المستمع، وتفتح بابًا للتأمل، وتمنح الفكرة بعدًا إنسانيًا. قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: “إن هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة”، والقصة كانت دومًا إحدى طرائف الحكمة. في الكتابة الصحفية والأدبية:
في عالم الأخبار، حيث الوقائع صارمة، يأتي السرد القصصي ليُضفي على الحدث وجهًا إنسانيًا. لم يعد الكاتب يكتفي بأن يقول إن هناك لاجئين، بل يروي حكاية طفل فقد أمه على الحدود. هكذا تتحول الإحصائية إلى جرح، ويتحول النص إلى حياة. في الإعلام والإعلان. الشركات الكبرى لم تعد تبيع منتجات، بل قصصًا. كل إعلان مؤثر يحتوي قصة تُثير العاطفة، وتُقنع العقل. إعلان بسيط عن كوب قهوة، يصبح ملحمة عن الأمل كل صباح.

في التعليم والتدريب: المعلمون والمدرّبون يدركون أن نقل المعرفة من خلال قصة يرسّخ الفكرة أكثر من الشرح المجرد. لأن القصة تُبنى على التشويق والربط العاطفي، وهما مفتاحا التعلّم الحقيقي.

القصة في القرآن الكريم والسنة الشريفة: الهداية عبر السرد للقصة مكانة مركزية في الخطاب القرآني. فهي ليست زخرفة بلاغية، بل أداة إلهية للهداية والتأمل وهي بناء منهجي لهدف تربوي وأخلاقي ومعرفي. فقد ورد في القرآن أكثر من 200 قصة بشكل مباشر أو ضمني، منها ما هو عن الأنبياء كقصة يوسف وموسى وإبراهيم، ومنها ما هو عن الأقوام السابقة كعاد وثمود، ومنها ما هو رمزي مثل قصة أصحاب الكهف. قال الله تعالى: “نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن” (يوسف:3) وهي الآية التي جعلت العلماء يقولون إن القصة في القرآن ليست للتسلية، بل للتوجيه والبصيرة. وتُعد قصة يوسف عليه السلام أنموذجًا للقصة القرآنية الكاملة، التي تجمع بين البلاغة، والعبرة، والتشويق، والرمزية. وقد ختمها الله تعالى بقوله: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” (يوسف:111)، ليؤكد أن القصة لا تُروى لملء الفراغ، بل لصناعة الوعي. وقد استخدم النبي ﷺ القصص في خطبه وتعليمه للصحابة، فغرض الرسول ﷺ من سرد القصص، هو نقل القيم وإيصال المعاني المركبة عبر حكاية بسيطة. علم النفس وتفسير الأثر القصصي علم النفس الحديث يفسّر قوة تأثير القصص من خلال عدة نظريات: نظرية النقل السردي (Narrative Transportation Theory)، تقول إن المستمع حين يُشَدّ لقصة، يدخل في “عالم سردي”، ويتوحد مع الشخصيات، مما يزيد من القابلية لتقبّل الرسائل الأخلاقية أو السلوكية ضمن القصة. العقل العاطفي (Emotional Brain) كما وصفه دانييل جولمان، يوضح أن المشاعر تسبق المنطق في التفاعل، والقصة تثير المشاعر أولًا، فتفتح الباب للمنطق لاحقًا. وقد لخّص عالم النفس “جيروم برونر” هذه الفكرة بقوله: “الناس لا يعيشون الأحداث، بل يعيشون الروايات التي يُعيدون صياغتها عنها. ويقول جوناثان غوتشال : “القصة تضع أفكارًا داخل عقولنا، دون مقاومة، لأنها تُغلف الحقيقة بالخيال.” في العلاج النفسي، يستخدم كثير من المعالجين ما يُعرف بـ العلاج السردي (Narrative Therapy)، الذي طوّره مايكل وايت وديفيد إبستون، حيث يُطلب من المريض أن يعيد كتابة قصته الذاتية من موقع “البطل” بدلًا من موقع “الضحية”، ليتمكّن من تجاوز ألمه. يقول مايكل وايت: “حين يُعيد الإنسان رواية تجربته من خلال قصة إيجابية، فإنه يُعيد بناء هويته، ويُشفي جراحه، ويستعيد التحكم في حياته.” وقد وجدت دراسة نشرتها مجلة Psychological Science أن سرد القصص في مجموعات دعم نفسي يساعد المرضى على خفض معدلات التوتر وتحسين المزاج، حتى لو لم تتغير ظروفهم الواقعية. لأن إطار القصة بحد ذاته يمنح المعنى، والمعنى هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. معضلة القصة في الفضاء العلني وإشكالية الموضوعية ولكن، على الرغم من سحرها، لا تخلو رواية القصص من مشكلات، خصوصًا حين تُستخدم في الخطاب العام. إضعاف الموضوعية القصة تميل إلى التحيّز، لأنها تروى من منظور واحد، وغالبًا ما تتجاهل التعقيدات. وعندما تحل القصة مكان التحليل، تضيع الدقة. فالقصة لا تقول “ما هو”، بل “ما يشعر به شخص ما”.

التحايل العاطفي : قد تُستخدم القصة للتحكم في المتلقي، عبر إثارة مشاعر الخوف أو الشفقة أو الغضب، دون مبرر عقلاني كافٍ. وهذا يشكّل نوعًا من التلاعب.

التضليل الرمزي: بعض القصص تُروى بطريقة مبالغ فيها، أو تتكرر دون تحقق، فتصبح أشبه بالخرافة، ولكنها تُستخدم لتبرير قرارات سياسية أو دينية أو اقتصادية. لهذا حذّر المفكر “نعوم تشومسكي” من هذا التضليل بقوله: “عندما يُروى الخبر دون سياقه، تصبح القصة أداة للدعاية لا للوعي.” نتيجة لذلك، يحذّر بعض علماء النفس مما يسمّى “وهم السرد”، أي الميل الفطري لدى الناس لتصديق قصة مرتّبة ومُتقنة، حتى إن كانت معلوماتها ضعيفة أو مشكوكًا فيها. والنتيجة: القصة تُقنع لا لأنها صادقة، بل لأنها جميلة. لذلك، يجب أن يكون استخدام القصص في المجال العام مصحوبًا بوعي نقدي، وألا تكون القصة بديلًا عن الحجة، بل جسرًا لها.

في الختام ، رواية القصص ليست مجرد تقنية، بل لغة خالدة تحكي بها البشرية نفسها. إنها الوسيلة التي نربط بها الماضي بالحاضر، والعقل بالعاطفة، والحقيقة بالمعنى. ولكنها مثل سائر الأدوات، تحمل في طياتها النور والظلام. وفي زمن تتنازع فيه الأصوات على الحقيقة، علينا أن نستخدم القصة لا لنخدع، بل لنكشف. لا لنُضلل، بل لنرشد. أن نحكي القصة لا لنكسب تعاطف الجماهير، بل لتقودنا نحو بصيرة أعمق. إنها الحكاية… حين تُروى بصدق، تُصبح مرآة للروح، ومفتاحًا للفهم، وسلاحًا للحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى