أقلام

نحو أسلمة العلوم: بناء معرفي على الأسس الإسلامية

أحمد الطويل

هذه المقالة هي تلخيص وتأملات في الدرس الخامس من كتاب “العلم والدين” للفيلسوف الإسلامي الكبير آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (رضوان الله عليه)، الفصل الخامس بعنوان: “مستلزمات أسلمة العلوم”.

مقدمة:

حينما تتكلم الروح وتسكت المعامل.

في عالمٍ غزته الحداثة المادية، وتحوّلت فيه الجامعات إلى مصانع للعقول المبرمجة، تتكرس أزمة الحقيقة، وتغيب الأسئلة الكبرى: من نحن؟ ما غايتنا؟ من أين نبدأ في فهم الإنسان والكون؟

لقد قُدِّم لنا العلم الحديث باعتباره شيئًا محايدًا، كأنه لا دين له ولا فلسفة. ولكن الحقيقة أن كل علم ينطلق من تصور سابق عن الوجود والإنسان والمعرفة.

وهنا، تبرز مسؤولية الأمة الإسلامية في إعادة تشكيل هذا البناء العلمي، لا من خلال التبعية والتكرار، بل من خلال أسلمة حقيقية للعلوم، تُعيد للعلم روحه، وللحقيقة قدسيتها.

نقد العلوم الحديثة، هل هي علمية حقًا؟

النقد الداخلي: العلم الذي يناقض نفسه.

عندما يقول علم النفس: الإنسان مجرد مادة، ثم يتكلم عن الإرادة، والشعور، والوجدان، فهذه مفارقة.

وعندما تزعم النظريات الاقتصادية أنها تهدف للحرية، ثم تُنتج عبودية رأس المال، فذلك تناقض.

قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، [الإسراء: 36]. العلم الحقيقي لا يقفز على التناقض، بل يكشفه ويعالج أسبابه.

النقد المبنائي: منطلقات مادية لا نؤمن بها

العلوم الحديثة في غالبها قائمة على تصورات مادية بحتة، تنكر الغيب، وتقصي الوحي، وتُخضع كل شيء للتجربة المادية.

ولكن الإسلام يرى أن الحقيقة أوسع من المختبر، وأعمق من الحساب.

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة»،

(الكافي، ج1، ص16).

فالوحي والعقل كلاهما طريقان نحو العلم، لا مجرد الحواس والتجربة.

الأسس الإسلامية لبناء علوم أصيلة

المعرفة في الإسلام: الوحي والعقل معًا.

نؤمن أن مصدر العلم لا يقتصر على التجربة، بل يتكامل فيه: الوحي، مصدر اليقين الأعلى.

العقل، الأداة الحاكمة والمحللة. هذه الثنائية ليست خصومة، بل تكامل.

فهم الوجود: بين المادة والروح

الكون ليس مادة فقط، بل فيه ما وراء المادة.

الإسلام يُعلّمنا أن هناك ربًا خالقًا، وملكوتًا غيبيًا، وعالمًا أخرويًا، لا يمكن للعلم المادي المحدود أن يُدركه وحده.

قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]. وهذا النور لا يُقاس بمقياس كهربائي.

حقيقة الإنسان: مخلوق مكرم، له غاية

الإنسان في الرؤية الإسلامية ليس مجرد حيوان ناطق، بل روح مكرمة، وجسد طاهر، وعقل مكلف.

الكرامة لا تأتي من الإنجاز الاقتصادي، بل من العبودية لله.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].

التوجيه الديني للعلم

القرآن ليس كتاب عبادة فقط، بل مرجع معرفي وتوجيهي.

العلم الذي لا يهتدي بالوحي، هو علم أعرج، يمشي على ساق واحدة. قال عز من قال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].

الخلاصة:

ليست أسلمة العلوم عملية تزيينية نُضيف فيها بضع آيات إلى مناهج الغرب.

وليست مجرد نقد لغربيّته، بل هي تحول جذري في الرؤية، والأداة، والغاية.

نبدأ من نقد الداخل: من تناقضات العلم الحديث، ومن أزماته الأخلاقية والإنسانية.

ثم نعود إلى البناء: بناء علم يتنفس من روحه الإسلامية، ويتغذى من الوحي، ويستند إلى العقل المضيء بنور الإيمان.

هذا العلم الجديد لا يُقصي العالم، بل يُعيد تأهيله، ويأخذ الإنسان من حيرته إلى يقينه، ومن عبودية السوق إلى عبودية الحق.

نحتاج إلى علماء ربانيين، يحملون أدوات العصر، لكن بقلوب تهتدي بنور السماء. وكأننا نسمع صوت الإمام علي عليه السلام يقول:

«العلم نقطة كثرها الجاهلون».

و هنا الإمام علي عليه السلام عندما قال “العلم نقطة”: أي أن أصل العلم بسيط ومركّز، وجوهره واضح لمن يفهمه. و المقصود ب “كثرها الجاهلون”: أي أن الجاهلون بالغوا وحرّفوا وبسّطوا وزادوا فيه حتى خرج عن بساطته وفُهِم على غير وجهه.

هذه المقولة تعكس نظرة فلسفية عميقة إلى طبيعة المعرفة، وهي مأخوذة من التراث الفكري الإسلامي، وتُستخدم أحيانًا في سياق نقد التعقيد غير الضروري أو التحريف الذي قد يُدخله الجهلاء على المفاهيم البسيطة والواضحة.

وآن الأوان أن نعيد تلك النقطة إلى معناها الأول: العلم هو سبيل إلى الله، لا إلى الهيمنة.

اللهم، يا من علمت بالقلم، وخلقت الإنسان فكرمته بالبيان، اجعلنا من طلاب علمك، وسدنة نورك، وارزقنا فهمًا يعمّر الأرض بالإيمان، اللهم اجعل علومنا نورًا، وغايتنا وجهك، وخدمتنا لعبادك، بمحمد وآله الطاهرين، يا أرحم الراحمين.

خاتمة:

ما تقدم ليس سوى تلخيص وتأملات في أحد دروس المفكر الإسلامي الكبير آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (رضوان الله عليه)، تحديدًا الدرس الخامس من كتابه القيم “العلم والدين” ، الذي عالج فيه بتأصيل عميق موضوع “مستلزمات أسلمة العلوم”، واضعًا اللبنات الأولى لبناء مشروع علمي إسلامي متكامل، يجمع بين روح الوحي ودقة العقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى