عيد الغدير: مشهد الولاية وإكمال الرسالة

أحمد الطويل
المقدمة:
حين لامس النورُ الأرض في غدير خم.
في دروب الزمن، هناك أيام لا تمر كغيرها، لحظات تقف عندها الأرض شاهدة، وتبتهج لها السماء، وتُسجَّل فيها الكلمات بماء الذهب وليس بالحبر. ومن بين أعظم تلك اللحظات في تاريخ الإسلام، يوم وقف النبي الأكرم محمد ﷺ في صحراء حارّة، تحت شمسٍ لافحة، ليرفع يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) عاليًا، ويعلنها مدوّية أمام الحجيج العائدين: “من كنت مولاه، فهذا علي مولاه”.
إنه عيد الغدير، يوم ارتفعت فيه راية الولاية، واكتمل فيه الدين، وعمّ فيه النور.
لكن، ما حقيقة هذا اليوم؟ ولماذا يحتفل به الملايين؟ ولماذا تراه طائفة من المسلمين تتويجًا للإسلام لا يقلّ شأناً عن يوم البعثة أو ليلة القدر؟
دعونا نعيد قراءة هذا المشهد بعين العقل، وبصيرة القلب، ونفتح أبواب الفهم على نور الغدير.
غدير خم: واحة البيعة في قلب الصحراء
بين مكة والمدينة، عند منطقة تُدعى الجُحفة، كانت مفترق طرق الحجيج العائدين من حجة الوداع. وفي هذا المكان بالذات، غدير خم، جاء الأمر الإلهي الذي لا يقبل التأخير: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾، [المائدة: 67].
فتوقّف النبي ﷺ عن المسير، ونادى أن يرجع من تقدم، ويقف من تأخر، حتى اجتمع ما يزيد عن سبعين ألف حاج في الحر اللاهب. فصعد منبرًا صنعوه من أقتاب الإبل، وخطب فيهم خطبة بليغة، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) ورفعها قائلًا: “من كنت مولاه، فهذا علي مولاه…”، (رواه أحمد بن حنبل، الترمذي، النسائي، وغيرهم من كبار المحدثين).
فلمّا انتهى النبي، نزل عليه وحي السماء مرة أخرى، بآية تُحسم كل جدل ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾،
[المائدة: 3].
يا لها من لحظة! لحظةٌ جمعت بين الرسالة، والوصاية، والبيعة، والحُب، والحق.
الولاية: مفهومها الروحي واللغوي
كلمة “الولاية” في أصلها تعني: القرب، النصرة، القيادة، والرعاية. في المفهوم الإسلامي الأصيل، وخصوصًا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، هي استمرارٌ لنور النبوة، لكن دون وحي.
الإمام هو من يتحمل عبء الهداية بعد النبي، ويكون محفوظًا من الزلل، محاطًا بالتأييد الرباني، مكلفًا بحماية الدين.
وقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): “الإمام بمنزلة النبي، إلا أنه لا يوحى إليه”، (الكافي، ج1، ص278).
وهكذا، تصبح الولاية ليست سلطة سياسية فقط، بل مقامًا ربانيًا، فيه المحبة، والطاعة، والاتباع، لا الإجبار أو الإقصاء.
لماذا لا يُترك الدين بلا وليّ؟
من زاوية عقلية محضة، لا يمكن أن نتصور نبيًا بعظمة محمد ﷺ، قضى أكثر من عشرين عامًا في بناء مشروع حضاري إلهي، ثم يرحل دون أن يُعيّن قائدًا يُكمل المسيرة.
العقل يرفض الفوضى، ويطلب النظام. فهل يعقل أن يُترك الدين دون راعٍ بعد وفاة نبيه؟
وهل كانت حجة الوداع الختامية لتخلو من إعلان هذا المصير العظيم؟
الجواب جاء من فم النبي، حين قال في الغدير: “ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه…”.
أيها العقل، تكلّم! أهذا مجرّد توصية عاطفية، أم تنصيب صريح؟!
الغدير: بين توحيد الصف والتاريخ المُختلف عليه
الغدير، مهما اختلفت الروايات أو تأويلها، هو مناسبة مذكورة عند الفريقين. وهذا ما يمنحها ثقلًا مشتركًا في الذاكرة الإسلامية.
المحبة التي أعلنها النبي لعلي، لم تكن فقط شعورًا وجدانيًا، بل إعلان مسؤولية وقيادة. ولو كانت المسألة فقط مسألة محبة، لما نزلت معها آيات البلاغ والإكمال.
المسألة أعمق، الغدير لحظة قرار، لا مجرد عاطفة.
كيف احتفل أهل البيت بالغدير؟
ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): “عيد الغدير هو أعظم الأعياد عند الله”،
(عيون أخبار الرضا، ج2، ص262).
وكان أهل البيت (عليهم السلام) يوصون بصلاة ركعتين خاصة، وصلة الأرحام، وتجديد العهد بالولاية، والدعاء للإمام، ولبس الجديد.
إنه ليس مجرد احتفال، بل هو تجديد عهد سنوي مع القيم الكبرى: الحق، الإخلاص، القيادة الربانية.
في عيد الغدير دعوة للوحدة لا للفرقة
ليس في الغدير ما يفرق، بل فيه ما يوحد: حبٌّ لعلي، وإيمانٌ بنزاهة الرسالة، واحترامٌ لتاريخٍ حافل بالضياء.
فلنقرأ الغدير كمسلمين محبّين للحقيقة، لا كمذاهب متنازعة.
ولنستحضر في هذا اليوم صوت النبي ﷺ، وهو يعلن الحقّ قبل أن يودع الدنيا.
الخلاصة:
الغدير بوصلة الهداية.
عيد الغدير ليس يومًا عاديًا، بل هو يوم بلّغ فيه النبي ﷺ أهم ما أُمر بتبليغه بعد التوحيد.
هو يوم اختار الله فيه للأمة من يحفظ الدين، ويرعى القيم، ويصون الرسالة.
فليكن الغدير محطة تأمل، لا جدال. وليكن دعوة لتجديد بيعتنا للحق، للنزاهة، للعدل، لمحمد وآله الأطهار، الذين طهّرهم الله تطهيرًا.
اللهم يا من أكملتَ الدين في يوم الغدير، وأتممت النعمة بنصب وليك أمير المؤمنين، اجعلنا من الثابتين على ولايته، المتّبعين لهداه، السائرين على درب محمد وآل محمد. اللهم اجعل الغدير عيدًا يتجدد في قلوبنا، لا تمرّ ساعاته دون نور، ولا لحظاته دون عهد. ويا رب، اجمعنا في ظلّ صاحب الغدير، إمام الزمان، واجعلنا من أنصاره، والممهدين له، والذابين عن رايته.