أقلام

السير إلى الله يبدأ من قلب نقي

أحمد الطويل

مقدمة:

في زمن تُكشف فيه العورات. في يومٍ تُفتح فيه صحائف الأعمال. ويُحشر الناس حفاة، عراة، شاخصة أبصارهم، ترتجف القلوب، وتُكشَف الأسرار، ولكن وجوهًا معينة تضيء كالقمر، لا أثر فيها لمعصية، ولا لذنب مكتوب! تسأل الملائكة بدهشة: “من هؤلاء؟ أنبياء؟ أم شهداء؟” فيأتي الجواب من ربّ العزة: “هؤلاء عبادي، كانوا يَسترون في الدنيا، فسترتُ عليهم… أأنا أكرم أم هم؟” ما أعظمه من ستر! وما أجمله من خُلق! في زمن تهاوت فيه الخصوصيات، وانتشر فيه فضح الناس على منصات “السبق الصحفي”، يظل هناك عبادٌ اختاروا طريقًا آخر. طريق الستر، والرحمة، والحلم، والتعامل الإلهي. وفي هذا الزمان، نحن أحوج ما نكون للاقتداء بقدوات النور في أيامٍ مباركة كهذه.

عليٌّ من تصدق وهو راكع، فأنزل الله فيه قرآنًا

في مثل هذه الأيام، نحتفل بعيد الغدير، حيث اختار الله الإمام عليًا عليه السلام إمامًا للمؤمنين. ذلك الرجل الذي ما فضح يومًا أحدًا، ولا كسر قلب إنسان، بل قال: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.” هو الإمام الذي تصدق بالخاتم وهو راكع، فخلّده القرآن! فهل من يتصدق وهو راكع، يمكن أن يفضح وهو قادر؟ كلا، لأن الستر خُلق العظماء، وخصلة الأولياء، ومنهج الأتقياء.

الكاظم من كظم غيظه فستر الخلق

في أيام مولد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، نتذكّر من لُقّب بـ”كاظم الغيظ”. كم ظُلِم، وشُتم، وسُجن، ورُوّع، ومع ذلك، لم يكن دعاؤه على ظالميه، بل كان دعاؤه لهم بالهداية، وستر زلاتهم، بل وإعانتهم إن تابوا. قيل له مرة: “أما رأيت فلانًا كيف يشتمك؟” فقال: “إن غفر الله له، فذاك شأنه، وإن عذّبه، فما أشفق عليه من نفسه!” هؤلاء هم سادتنا، من علمونا أن السير إلى الله لا يكون بالكلام الكثير، بل بالأفعال النقية، والقلوب التي لا تحقد، والألسنة التي لا تجرح.

خلق الإنسان الرباني

الخلق الطيب، والستر، والتواضع، ليست أخلاقًا جانبية، بل هي أساس الدين. قال الإمام علي عليه السلام: “أفضل الأعمال ستر العيوب.” وقال الكاظم عليه السلام: “ليس حسن الخلق أن تكف أذاك عن الناس فحسب، بل أن تحتمل أذاهم، وتصبر على جهلهم.” الإنسان الرباني هو الذي يربح القلوب بصفاء النية، لا بكثرة الجدال. يرتفع عند الله ليس بعلو صوته، بل بخفض جناحه للناس.

السير إلى الله يبدأ من هنا

في “الأربعين حديثًا”، ذكر أحد العلماء: “السير إلى الله لا يكون إلا من ظاهر الشريعة.” فابدأ بما بدأ به الأنبياء والأئمة: الوضوء، الصلاة، الصدق، كف الأذى، برّ الوالدين، ستر العيوب، خدمة الخلق، والصبر على الابتلاء. أما من ظن أنه يصل إلى الله وهو يحمل في قلبه حقدًا، أو يفرح بفضيحة، أو يتلذّذ بعورات الناس، فقد ضلّ الطريق. القرب من الله يبدأ من قلب نقي، ولسان ساكت عن الزلل، وخُلق لا يؤذي.

الخلاصة:

إننا حين نتأمل في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ونقاء روح الإمام الكاظم، نوقن أن السير إلى الله لا يبدأ من الطقوس فقط، بل من أعماق الأخلاق. الستر على الناس ليس تصرفًا عابرًا، بل رسالة روحية عميقة، يُجازي الله صاحبها بالستر يوم العرض الأكبر. ومَن أراد أن يكون قريبًا من الله، فليبدأ بتزكية قلبه، ولينظر كيف يُعامل الناس إذا أخطأوا. فإن كنت من السترين، من الحالمين، من الحريصين على إصلاح الآخرين لا فضحهم، فأنت تسير بالفعل على طريق الله، وإن تأخرت خطواتك، لأن الله ينظر إلى النية، لا إلى سرعة الحركة.

اللهم اجعلنا من عبيدك الساترين، على خطى عليّ الكرار، وعلى خُلق الكاظم الصبّار، وارزقنا السير إليك بخطى من نور، لا يضل فيها القلب، ولا يعمى فيها البصر، وازرع في قلوبنا الرحمة، وفي أعيننا الحياء، وفي ألسنتنا الصدق، ولا تفضحنا يوم العرض عليك، يا ستّار من لا ستّار له

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى