جوهر الإنسان (٣)

السيد فاضل آل درويش
البعد الجمالي في حركة الإنسان وسعيه المجد في ميادين الحياة الفكرية والمهنية والاجتماعية هو تطوّره وتحسين أدائه وتنفيذه، بعد أن يكتسب الخبرات والدروس من الأخطاء والتقصير المرتكب منه ومن غيره، وهذه حياة و عمل الناجحين كتاب مفتوح بين يديه يكتسي منه حلل إثبات الوجود والتقدم، ولذا فإن أنفاسه المتلاحقة وأيامه المتقادمة لا تشابه بعضها، لما تمثله من مراحل متلاحقة يتقدم فيها بخطى ثابتة دون أن يتسلل إليه ضعف الإرادة وروح اليأس، ومتى ما انسلخ من إنسانيته النبيلة المتمثلة في الهمة العالية ووقع تحت نير الضغوط الحياتية واعتصرته الأزمات وأفقدته نقاط وموارد القوة والاقتدار، فسيسقط حينئذ أرضًا ويعاني من التمزّق والتهرّي النفسي والمهاري، والحياة سلسلة من الأزمات و الضغوط ولا تخلو حياة أحد منها، ولكن الفارق يكمن ما بين من يزيح الركام ليكمل طريقه وبين من يتوقف في منتصف الطريق تائهًا ومتحيرًا.
ومن أهم تلك المشاكل التي يواجهها الإنسان هو انخفاض سقوف أهدافه وتوقف عجلة مهاراته وإمكاناته معتقدًا أنه لا يمكنه أن يقدّم شيئًا جديدًا و منجزًا قيّمًا، والحقيقة الغائبة هي أن وجود الإنسان لا يختفي ولا ينقطع ما دامت أنفاسه تتلاحق، وعليه أن يوظّف قدراته وإمكاناته ويرسم أهدافه بحكمة ونفس طويل؛ ليزيح عن طريقه مفاعيل وآثار الأزمات المختلفة والمتعددة شيئًا فشيئًا حتى يخرج من عنق الزجاجة بأقل الخسائر.
الجانب العملي والمهني مظهر مهم يفصح عن جوهر الإنسان وحقيقته علوًا أو انحدارًا، فمسيرة الإنجاز والإنتاج تمتشق سحاب الطموح والسمو من خلال الجهود التي يبذلها في طريق تحسين وتطوير أدائه وتنفيذه، فساحة العمل نتاج لتلك الأفكار والتصورات الواعية التي يحملها ومن ثَمّ يطبّقها على أرض الواقع، ومتى ما كان الفرد يحمل روح العمل الجاد ويضع مقياسًا لوجوده يتعلق بقدر ما يؤديه بطريقة حسنة استطاع حينئذ أن يكون عنصرًا فعالًا في تقدم المجتمعات ورسم معالم المستقبل الواعد، والأمر لا يتعلّق بالأماني والأحلام الوردية بل يرتبط بإرادة الإنسان وتصوراته عن نفسه وقدراته ومدى تحقيقه لوجود حيز في عجلة الإنتاج.
وذلك الجمود القاتل كما أنه يرتبط بالأداء الوظيفي للفرد كذلك يرتبط بالجانب الفكري وتجدد وتولد التصورات في الذهن، والمخزون الفكري والثقافي ليس مجرد معلومات متراكمة ومرصوصة في العقل دون أن يكون لها دور المحرك (الدينمو) الرئيس لحركة الإنسان الكمالية، بل هي حركة مستمرة من النقاشات الذاتية وعملية النقد الإيجابي والمراجعة للأفكار والخطوات العملية، فليست هناك مساحة ركود واستراحة يركن إليها العقل البشري بعيدًا عن توليد الأفكار والابتكار، ومتى ما توقفت حركة الوعي والنضج الفكري وتنمية المدركات العقلية فهذا يعني تسلل فيروس الجهل والانغلاق الفكري، الذي بدوره يعني بدوره إلى التراجع والتقهقر في مواجهة التحديات والأزمات الحياتية العاصفة.
والجمود القاتل قد لا يتعلق بالجانب العملي أو الفكري للإنسان بل يصيب الجهة الروحية والإيمانية واليقين بالتدبير الإلهي، فهذا الجانب يشكل هرم الحركة الجوهرية والعمود الفقري لمسيرته التكاملية، إذ أن العلاقة الإيمانية لها آثارها ومكتسباتها المتمثلة بروح الصبر والقوة على التكيف مع الصعوبات والتمسك بخيط الأمل والتفاؤل المستقبلي، ومتى ما فقد الفرد حالة السلام الداخلي أدّى ذلك إلى الانهيار النفسي وتراجع مؤشر قيمته الوجودية.