أقلام

أول مدرسة لتعلم اللغة وتشكيل الهوية في حياة الإنسان تبدأ في رحم أمه

المترجم : عدنان أحمد الحاجي

كتبت المقدمة الدكتورة ريما زهير الكردي، مدارس جامعة الملك عبد الله العلوم والتقنية، باحثة وكاتبة في أدب الطفل وناقدة ومدربة

مقدمة د. ريما الكردي

منذ اللحظات الأولى لتكوّنه داخل الرحم، لا يعيش الجنين في عزلة عن عالم الأصوات، بل ينخرط في تفاعل مبكر مع أقرب الأصوات إليه وأكثرها ثباتًا وهو صوت أمه. فقد بيّنت الدراسات الحديثة أن الجنين قادر على سماع صوت أمه والتعرف إلى إيقاعه ونبرته، بل إن هذا التفاعل يتجاوز مجرد الاستماع ليكون بمثابة تمهيد أولي لاكتساب اللغة، إذ يبدأ الدماغ في تلك المرحلة برصد الإيقاعات وتمييز الخصائص الموسيقية للكلام، مما يُرسّخ الأساس المعرفي واللغوي لما بعد الولادة.

لا يقف أثر هذا الصوت عند البعد السمعي فقط، بل يتجاوزه إلى تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة؛ إذ يُسهم في شعور الجنين بالأمان، ويساعد في بناء روابط عصبية تُعزز قدراته المستقبلية على التواصل. وقد كشفت بعض الدراسات أن الأجنة بعد ولادتها بمدة وجيزة تبدأ بمحاكاة حركات الفم عند سماع الصوائت، في إشارة إلى وجود استعداد فطري للكلام. وهكذا، لا يكون صوت الأم مجرد صوت مألوف، بل يُعدّ النواة الأولى للغة، والجسر الأول نحو بناء الروابط الإنسانية ومن هنا يتجلى مفهوم لمرحلة مبكرة من اكتساب ” اللغة الأم”. وهذا المقال يُسلّط الضوء على هذا الجانب الحيوي من نمو الطفل وتكوينه اللغوي والانفعالي منذ أن كان جنينًا حتى خروجه إلى عالم الأصوات والكلام.

المقالة المترجمة

النقاط الرئيسة

حتى في الرحم، تستطيع الأجنة سماع صوت أمهاتهم والتعرف على إيقاعه (1) وحدته.

سماع الأجنة للكلام يساعدهم على البدء بتعلم نمط اللغة (2).

لوحظ أن الأجنة يقلدون الصوائت (3)، مما يوحي باستعدادهم المبكر للكلام.

تصف هذه المقالة التأثير الكبير لصوت الأم في تطور لغة الطفل. تستطيع الأجنة سماع أصوات أمهاتهم والبدء بالتعرف على أنماطه وإيقاعاته، مما يساعدهم على تطوير مهاراتهم اللغوية. كما تسلط المقالة الضوء على الفوائد الانفعالية والاجتماعية لصوت الأم، بما في ذلك زيادة في مستويات إفراز هرمون الأوكسيتوسين والشعور بالراحة والأمان والإطمئنان.

الاستماع في الرحم

مع أن بعض الجوانب الأولية للسمع تبدأ مبكرًا، إلّا أنّ الدراسات تفيد بأن الجهاز السمعي – الذي يشمل الأذن الخارجية والداخلية بالإضافة إلى العصب السمعي – يكتمل نموه عند الأسبوع 26 إلى 28 من الحمل.

إذن، ماذا يسمع الأجنة بالتحديد وهم في أرحام أمهاتهم؟ يسمع الأجنة من داخل الرحم دقات قلب الأم، وأصوات عمليات تنفسها وهضمها الطعام. أما ما يسمعونه من خارج أجسام أمهاتهم، فإن الصوت الأبرز والأكثر ثباتًا الذي يسمعونه هو صوت كلام الأم، إلى جانب الأصوات الموسيقية أو الأصوات البيئية الأخرى من حين إلى آخر.

نظرًا لخصائص الرحم والسائل الأمنيوسي العازلة للصوت، فإن نطاق الأصوات التي بإمكان الأجنة سماعها يقتصر بشكل أساس على ترددات الصوت المنخفضة. هذا يعني أن خصائص الكلام مثل درجة الصوت وأنماطه الإيقاعية هي أكثر ما يستطيع الأطفال سماعه قبل الولادة.

استماع الجنين لصوت الأم يساعده على بدء تشكيل رابطة تواصل خاصة بينه وبين أمه. في الواقع، بينت الدراسات أنه عندما يسمع الجنين صوت أمه – والذي يمكن الكشف عنه باستخدام مكبر صوت يوضع على بطن الأم – يزداد معدل دقات قلبه، وهي قرينة على تعرّفه على صوت أمه والتفاعل معه. بينما حين يسمع الجنين صوتًا أنثويًا غير مألوف له (صوت أنثى غير أمه)، ينخفض معدل دقات قلبه.

التأثير الهائل

اللافت للنظر أن استماع الجنين لكلام أمه يُهيئه لتعلم اللغة، وهي عملية تبدأ حتى قبل الولادة.

قد يكون النطاق الترددي المحدود للرحم (عدد مرات انقباض الرحم في فترة زمنية معينة تعد بالدقائق (4)) في الواقع بمثابة حماية للطفل وتهيئة لكلامه. فهو يسمح للجنين بالتناغم مع إيقاع وحدّة الكلام ودقة النبر [دقة: النبر prosody هي الخصائص المميزة للنبر الموسيقي، كطول حروف العلة والتوقف عن الكلام المؤقت وارتفاع الصوت تعطي أنماطًا إيقاعية مختلفة في لغات مختلفة، حيث الرضع عادةً ما يكونون حساسين لهذه الخصائص للسان امهاتهم (5)] دون أن يسبب للجنين فرطًا حسيًا لا يتحمله دماغه بسبب تعقيد أصوات اللغة [تباين أنواع الوفونيمات (6)]. ويبدو أن هذا الاستماع المحدود للكلام يساعد الأجنة على البدء في التمييز بين أنماط الكلام الأصلية (من الأم) وغير الأصلية (من غير الأم)، وقد يُساعدهم حتى في التعرف على الإشارات أو القرائن الانفعالية في الأصوات [تغير في نبر الصوت كقرينة على نوع الانفعالات (7) الذي تمر به الأم من وقت إلى آخر].

تُعطي هذه التجربة المبكرة للمواليد الجدد نوعًا من “مجموعة أدوات (صندوق أدوات) لبدء” اللغة. فبمجرد ولادتهم، يكونون أكثر استعدادًا للقيام بمهام أكثر تعقيدًا، مثل التعرف على الصوائت (3) والصوامت (8) وغيرها من الخصائص الفريدة لـ لغة الأم (اللغة الرئيسة التي يتكلم بها أهل البلد).

يشبه الأمر إلى حد ما تطور البصر والقدرة على الرؤية: يبدأ حديثو الولادة برؤية ما حولهم بشكل ضبابي، مما يمنح جهازهم البصري وقتًا للتكيف. أما مع الكلام، فيبدأ التدريب عليه في الرحم، مما يمهد الطريق لتعلم السريع للكلام بعد الولادة.

تشير الأبحاث إلى أنه بعد الولادة بفترة وجيزة، يميز الأطفال صوت أمهاتهم ويُفضلونه على الأصوات الغريبة. كما يمكنهم التمييز بين اللغة المألوفة (لغة الأم) واللغة الأجنبية، حتى لو كان المتحدث باللغتين شخص واحد لم يسمعوه من قبل.

الاستعداد للكلام

سماع الكلام قبل الولادة لا يساعد الطفل على التعرف على أنماط اللغة فحسب، بل قد يُسهم أيضًا في بناء الأسس الفيزيائية للكلام (المتمثلة في آليات انتاج الصوت أو الكلام ولغة الجسد المصاحبة له].

لاحظت دراسات استخدمت الموجات فوق الصوتية أن الأجنة تُحرك أفواهها استجابةً لأصوات الصوائت، وكأنها تُحاكي حركات الفم اللازمة لإصدار تلك الأصوات. هذا يُشير إلى أن استماع الجنين للكلام في رحم أمه قد يُساعد في إنشاء مسارات حس حركية [الاستفادة من الحواس الخمس لمعرفة ما يجري حوله والقدرة على تحريك وتنسيق أطرافه (9)] – هذه المسارات هي الدوائر العصبية التي تربط السمع بالحركة – والتي ستدعم لاحقًا إنتاج الكلام.

تشكيل روابط عاطفية واجتماعية من خلال اللغة

يبدو أن سماع صوت الأم يلعب دورًا حاسمًا في نمو الطفل الإدراكي والانفعالي (7) والاجتماعي.

على سبيل المثال، بينت الأبحاث أن الخدج في وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة يستفيدون من سماع أصوات أمهاتهم – حتى لو لم تتمكنّ أمهاتهم من حملهم. قد يساعدهم سماع الكلام على الرضاعة بشكل أكثر فعالية، وزيادة وزن أجسامهم نتيجةً لذلك، وزيادة تفاعلهم الاجتماعي.

وجدت إحدى الدراسات أن الأطفال الخدج الذين يسمعون صوت أمهاتهم لديهم أساليب تواصل أفضل (10)، ويحققون درجات أعلى في نمو قدراتهم اللغوية عند سن 7 أشهر و18 شهرًا مقارنةً بمن لم يتعرضوا لأصوات أمهاتهم حينئذ.

الأطفال المولودون بعد فترة حمل كاملة يفضلون بشكل واضح أصوات أمهاتهم على غيرها من الأصوات، مما يوحي بأنه بالإضافة إلى المساعدة في تطور لغتهم، فإن صوت الأم يُهدئ ويُقوي الرابطة بين الأم وطفلها.

على سبيل المثال، سماع صوت الأم مرتبط بارتفاع مستويات هرمون الأوكسيتوسين (11) المقترن بالترابط الاجتماعي (12)، خاصةً عندما يتضمن الصوت مؤثرات انفعالية (عاطفية) أو داعمة. وجدت إحدى الدراسات أن مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر النفسي)(13) انخفضت لدى الفتيات اللواتي تعرضن لضغوط نفسية، بينما مستويات الأوكسيتوسين ارتفعت بعد التحدث مع أمهاتهن – ولكن هذه الظاهرة لم تلحظ بعد تبادلهن رسائل نصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع أمهاتهن. مما يعني أن لصوت الأمهات الدور الرئيس في إحداث هذا الفرق.

الارتباط الدائم

اتضح أن صوت الأم ليس مجرد مصدر للراحة، بل هو أساس لها. إنه أول صوت نسمعه ونتعرف عليه وأول إيقاع نألفه ونحن أجنة، وهو الخطوة الأولى في رحلتنا نحو معرفة اللغة وفهمها واستخدامها.

يجدر بنا في عيد الأم [الآتي]، ونحن نتأمل في كل ما فعلته أمهاتنا من أجلنا، أن ندرك محورية الأمهات في حياتنا، ونتذكر أن دورهن كمعلمات قد بدأ قبل أن نولد، حيث كان لأصواتهن الدور الأكبر في تشكيل هويتنا – إدراكًيا وانفعاليًا ولسانيًا.

مصادر من داخل وخارج النص

1- https://ar.wikipedia.org/wiki/إيقاع

2- https://ar.wikipedia.org/wiki/لغة_النمط

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/صائت

4- https://www.webmd.com/baby/what-to-know-contractions

5- https://ar.m.wikipedia.org/wiki/نبر

6- https://ar.wikipedia.org/wiki/صوتية

7- الانفعال emotion هو شدة التأثر. و في علم النفس يعني: حالة نفسية ذات شحنة وجدانية قوية، مصحوبة بتغييرات فسيولوجية خاضعة للجهاز العصبي الودي، وبحركات تعبيرية كثيراً ما تكون عنيفة، وينشأ الانفعال عادة عن إعاقة فجائية لرغبات قوية كما في الغضب والخوف، أو عن إرضاء غير متوقع لهذه الرغبات، كما في الفرح. ويعرف التحليل النفسي الانفعال: بأنه التعبير الديناميكي عن الغرائز.” مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:

https://altibbi.com/مصطلحات-طبية/علم-النفس/انفعال

8- https://ar.wikipedia.org/wiki/صامت

9- https://www.nicklauschildrens.org/conditions/sensory-motor-deficits

10- https://www.studocu.com/en-us/messages/question/8660725/which-of-the-following-is-part-of-conversational-behaviortext-messagingwritten

11 – https://ar.wikipedia.org/wiki/أكسيتوسين

12- https://ar.wikipedia.org/wiki/ترابط_بشري

13- https://ar.wikipedia.org/wiki/توتر_(علم_الأحياء)

المصدر الرئيس

https://www.psychologytoday.com/us/blog/language-in-the-wild/202505/the-mother-of-communication

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى